لا تحاصرهم حدود الموسيقى والأغاني وحتى الرقص لأن العراضة تسكن في القلب، فتنتقل أينما انتقل الإنسان، بل لا تموت أيضا طالما أن لها عشاقا على الأرض، فحين غادر السوريون بلادهم في السنوات الأخيرة حملوا معهم بعض الأمتعة والأموال في حقائبهم، وحملوا معهم تراثهم وخاصة العراضة الشامية في القلب، فانتشرت فنونهم في الأرض كما انتشروا هربا من ويلات الحرب. دمشق- طقوس شعبية تعرف بـ”العراضة الشامية”، كان صداها يتردد في حارات دمشق القديمة ومختلف المدن السورية، واليوم تنتشر بكل ما تحمله من رقصات وأهازيج في العديد من البلدان الغربية والعربية، لتبعث البهجة والسرور في قلوب السوريين المغتربين. وتنتمي العراضة الشامية إلى التراث الشعبي القديم الذي توارثته الأجيال وما زالت تحتفظ به حتى أيامنا الحالية مع إدخال بعض التعديلات والتنويع في الأهازيج وفق المناسبة، لتبقى العراضة فلكلورا سوريا أصيلا يعود تاريخه إلى المئات من السنين. يقول أبوحسين قائد فرقة “فرسان المحبة” للعراضة في دمشق لوكالة الأنباء السورية (سانا)، إن تاريخ فرقته يعود إلى أكثر من مئة عام، وقد توارثها عن جده أبوه الذي بدوره علمها لأبنائه. وأوضح أن عدد أعضاء العراضة يختلف بين فرقة وأخرى وقد يصل إلى 50 شخصا، وتتألف العراضة من القائد وهو رئيس الفرقة الذي يقوم بالوصف عند ترديد الأغاني “ولديه مساعد يمكن أن ينشأ بينهما نوع من التنافس في الغناء أو الشعر، إضافة إلى أعضاء يلعبون بالسيف والترس أما باقي الأشخاص فمهمتهم التصفيق وترديد الأهازيج”. تراث بتعديلات العصر العراضة هاجرت مع هجرة السوريين إبان الحرب الأخيرة إلى بلدان عربية كثيرة كتونس ومصر والأردن، بل دقت طبولها في السعودية والإمارات ودول أوروبية عديدة، لتجعل من يحضرها ويسمعها يرقص قافزا على عائق اللغة، ففي ألمانيا أسست مجموعة من اللاجئين السوريين فرقا رقصت في ساحات أوروبا وشاركهم في رقصاتهم عرب وغربيون. وتتميز العراضة الشامية بلباسها العربي التقليدي الذي يجذب الناس، وكانت الفرق قديما تقدم عرضها بشكل مجاني، لكن مع الأيام أصبحت فرقا محترفة تمتهن هذا الفن بمقابل مالي وقد أضفت عليها تعديلات كي تواكب العصر وتلبي مختلف الأذواق خاصة الفرق العربية التي هاجرت خارج سوريا حتى أن بعضهم كتب بعض الأهازيج باللغة الأجنبية ليستسيغها المستمعون في أوروبا. يتحدث أبوأحمد حسن الصعب مساعد رئيس فرقة “فرسان المحبة” عن التعديلات التي أدخلت على العراضة الشامية من حيث إضافة بعض الآلات الموسيقية الحديثة إلى جانب الطبل الذي كان يعتمد عليه فقط في الماضي، وتغيير لون لباس الرئيس أو القائد الذي يقوم بالوصف لتمييزه عن “الرديدة” (المردّدين). وعن الأغاني والأهازيج التي يتم ترديدها يشير أبوأحمد إلى أنها تختلف من مناسبة إلى أخرى ويمكن للرئيس أن يرتجل الكلام ويصف بما هو مناسب حيث لم تقتصر مشاركة العراضة على الأعراس، وإنما أصبحت لها مشاركات في استقبال الحجاج وافتتاح المحلات التجارية والمهرجانات التراثية في سوريا وخارجها. أعراس عربية تؤثثها فرق سورية بإيقاعات تراثيةأعراس عربية تؤثثها فرق سورية بإيقاعات تراثية وتشكل المبارزة بالسيف والترس أحد أهم مظاهر العراضة الشامية وترافقها بعض حركات الرقص بالأيدي والأرجل وضرب الطبول وإضاءة المشاعل والأجواء التي تزداد حماسة كلما اشتدت المبارزة التي تعبّر عن قيم الرجولة والصمود في ساحات القتال. وغالبا ما يكون عدد المبارزين زوجيا بحيث يتقابلون مثنى مثنى، وخلالها يقدم ما يسمى الصحايف وإعلاء الراية، وهي صحايف العريس أو الحاج، ويبدأ العرض بحركات منظمة ودقيقة يرافقها الطبل لضبط الإيقاع مع ترديد الصحايف ثم يبدأ الطبل بتسريع الإيقاع فتزداد الحركات معه سرعة، ويقترب المتبارزون حيث تشتد المبارزة بين اثنين، ثم يدخلون على قائد العراضة ويكون هو الحكم في الوسط فيصد هجوم كل من حوله من المبارزين، وغالبا ما يكونون ستة فيبارزونه جميعهم، حينئذ يبرز بمهارته في صد هجومهم عنه، ومع انتهاء العرض يقبلون بعضهم جميعا بعد مبارزة طويلة. ومن هذه المبارزات ما يسمى بمبارزة الزخ وتكون بالسيف والترس، ومنها مبارزة السبعاوية وهي بالسيوف فقط. وتتنوع فرق العراضة بين مختلف المحافظات السورية كالحموية والحمصية والحلبية وغيرها التي تحمل عبق الماضي إلى الأجيال، إلا أن هذا التنوع يغيب في خارج سوريا، حيث يلتقي السوريون على عراضة شامية واحدة. عراضة حماسية العراضة الشامية بوصفها إحدى تجلّيات الفرح السوري، تبحث عن السوريين أينما وجدوا في الخارج، تعلمهم بوجودها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وتتوزع فرق العراضة الشامية في كثير من المدن الألمانية، ففي مدينة هانوفر هناك فرقة “غزلان الشام” التي أسسها قبل سنتين الشاب عامر غزال، الذي ينحدر من حي الشاغور الدمشقي. يقول، إن تأسيسه للفرقة جاء بطلب من العديد من الأهل والأصدقاء، مضيفا “بالنسبة إلينا، إن لم تكن هناك عراضة شامية في مناسبة أو عرس، فإن فرحتنا لا تكتمل”. وكتبت فرقة “باب الحارة الشامية” في أوروبا وألمانيا عبر صفحتها على الفيسبوك، “العراضة الشامية على أصولها مع أبوالعز الشامي.. قبل السلام عليكم، أبوالعز يحييكم بألمانيا وأوروبا، على الفرح نلاقيكم، جئناكم من الشام لنلبي كل الأفراح وفرقتنا باب الحارة، عنوان الفرح”. ويتضح من خلال صفحة الفرقة، أن تلبيتها للأفراح في مدن أوروبية عدة لا يقتصر على حفلات الزفاف، بل يتعداها إلى المشاركة في المهرجانات، بالإضافة إلى مناسبات أخرى تأخذ طابعا اجتماعيا يجمع السوريين والعرب في أرض ليست أرضهم. وبعد أن وصل أبودياب إلى ألمانيا قبل أربع سنوات، أراد أن يستعيد ذكريات الشام، حيث إنه كان قائدا فرقة للعراضة الشامية في دمشق، التي أسسها قبل أكثر من ثلاثين سنة، وفور وصوله إلى المهجر، أسس فرقة تحمل اسم “فرقة الشام لإحياء التراث الثقافي” في مدينة فوبرتال الألمانية التي يقيم فيها إلى الآن. يقول أبودياب، “بعد مجيئي إلى ألمانيا لم أستطع أن أعيش دون العراضة الشامية، فأحببت أن أؤسس فرقة، لكي نحافظ على تراثنا ويراه أطفالنا من أجل ألا ينسوا تقاليدهم”. ويضيف، أن لكل مناسبة أهازيج خاصة بها، فأهازيج الأعراس والأفراح يتم التركيز فيها على مدح العريس وأخلاقه وحسبه ونسبه، “في الأعراس نردد مثلا، عريس الزين يتهنى.. يطلب علينا ويتمنى.. عريس الزين يا غالي.. أفديه بالروح والمال”، أما “في المناسبات الشعبية أو الدينية فنردد من الأهازيج ما يناسب ذلك”. وشاركت فرقة الشام في مهرجان الربيع الذي أقيم في مدينة فوبرتال، وحازت على إعجاب الألمان، حيث “دبك ورقص الألمان مع العرب على أنغام الأهازيج الشعبية التي كنا نرددها”، كما يقول أبودياب. وقد يكون تفاعل الألمان هو الذي دفع أبودياب إلى كتابة كلمات ألمانية كي يرددها في الأهازيج، قائلا، “كتبت بعض الكلمات البسيطة كي يفهمها الألمان عندما نردد الأهازيج في العراضة”. فرح شامي عند العرب في البلدان العربية وجدت العراضة الشامية قبل تدفق اللاجئين السوريين شهرة كبيرة، ومع انطلاق الأحداث في سوريا رأت فرقة “سيف الشام” نقل نشاطها خارج البلاد بعد أن نالت شهرة واسعة في دمشق وكانت وجهتها تونس. يقول مؤسس الفرقة زهير اللحّام من العاصمة التونسية عن بدايات فرقته المتكونة من خمسة عشر عضوا، “فرقتنا خرجت من حارات دمشق القديمة حريصة على أن تظل على نفس النهج الذي نشأت عليه، فقدّمنا الفلكلور والتراث الدمشقي الأصيل”. من أهازيج الأعراس: عريس الزين يتهنى.. يطلب علينا ويتمنى.. عريس الزين يا غالي.. أفديه بالروح والمال ولسنوات عديدة تقدم الفرقة لوحات مختلفة منها الدبكة والعراضة بالسيف والترس في الأفراح، كما شاركت في عدة مناسبات ومهرجانات كقرطاج وسوسة والحمامات ومهرجانات الجنوب التونسي ومهرجان بنزرت. ويرى زهير اللحّام، أن الفرقة نجحت إلى حد كبير في الترويج للفن الشعبي السوري في أحد بلدان المغرب العربي. وغزت فرقة “نور الشام” السورية أفراح السعوديين ومناسباتهم بشتى فنون التراث الشعبي السوري الذي عُرف منذ المئات من السنين. ولاقت الفرقة التي تضم شبانا من مختلف المدن السورية استحسان المجتمع السعودي وتشجيعه وقدمت العديد من العروض في مدن المملكة. يقول مؤسسها حسام أبوالنور الذي ينحدر من مدينة عربين في الغوطة الشرقية، “إن الفرقة تؤدي فنون العراضة المختلفة من سيف وترس وأناشيد وأهازيج ودبكة وغيرها من الفنون التي ميّزت سكان الحارات الشامية القديمة، إلى جانب بعض العروض التي يفضلها السعوديون، كمشاعل النار والتنين البشري الذي ينفخ النار، وعادة ما تقدم الفرقة أعمالها في المناسبات كالأعراس أو افتتاح محال أو عقيقة الأولاد أو استقبال الحجاج”. وذكر، أن فرقته تلاقي إقبالا وترحيبا من السعوديين وخصوصا في مدينة مكة المكرمة ومدن أخرى، كجيزان وأبها والدمام، أين شاركت في العديد من الأفراح والمهرجانات. ولفت أبوالنور إلى أن الاهتمام بالعراضة جاء كنوع من التعويض النفسي عن الغربة والابتعاد عن البلاد والأهل، وكان الهدف من تأسيس الفرقة أن تكون الشام في قلبه ووجدانه أينما ذهب. العراضة الشامية انتشرت في مصر أيضا مع انتشار السوريين في العديد من المدن، يروي أبوعلي قائد فرقة “أنوار الشام” كيف أسس فرقته في القاهرة، قائلا، “جمعت أصدقائي السوريين الذين يمتلكون آلات موسيقية، ولديهم الزي السوري التقليدي الخاص بالعراضات، وقمنا بتدريبات على الأغاني والرقصات، وتطوّر نشاطنا، وزاد إقبال الناس علينا، سواء من السوريين المقيمين في القاهرة أو المصريين، وأعجبهم تراثنا”، ونحن نغني لهم اليوم “زينوا الفرح”، و”أهل الراية”، وغيرهما من الأغاني السورية التي يرددونها معنا. رقصات ساخنة تدفئ المغتربين في أوروبا الباردةرقصات ساخنة تدفئ المغتربين في أوروبا الباردة وفي مدينة الإسماعيلية، تعيش مجموعة من السوريين الذين نقلوا إرثهم الفني معهم إلى مصر، وبعد أن استقروا استعادوا أجواء الشام بتقديم العراضة السورية وما تحمله من تفاصيل مرتبطة بالحياة السورية القديمة. يقول محمد الفرواتى قائد مؤسس فرقة “باب الحارة الدمشقية”، “منذ انتقالي إلى مصر مع عائلتي وأصدقائي شكلنا فرقة لإحياء التراث القديم لمن يعيش خارج الوطن، ونحن نقدم اليوم رقصة الدراويش والاستعراض بالسيف والترس، ودق الطبول مع فرقة الأناشيد، في مناسبات السوريين والمصريين”. وإثر انتقالهم إلى الأردن هاربين من ويلات الحرب، جلب السوريون إرثهم الفني معهم رغبة منهم في تعريف الآخرين على تراثهم الشامي حتى لا يندثر. يقول زاهر دعدع أحد أعضاء الفرقة، إنه بمجرد بدء العراضة الشامية خاصة في ساحة عامة، يلتف الحاضرون حولنا لمشاهدة العرض بل يشاركوننا الحماس، فالكثير من الناس يحبون ما تتضمنه العراضة من سيف وترس وأهازيج شامية قديمة. وفي إربد تقدم فرقة “العراضة الدمشقية” الأهازيج السورية كالموشحات الأندلسية مثل “يمر عجبا” و”إملالي الأقداح”، إضافة إلى القدود الحلبية التي تتميز بإيقاعها السريع وسهولة الكلمات وغيرها من الأغاني السورية التي تعرفها العرب. يقول محمد أحمد مؤسس الفرقة نقدم رقصة الدراويش، والاستعراض بالسيف ودق الطبول بالشراكة مع فرقة الأناشيد السورية، مشيرا إلى أنهم يقدمون عروضا مجانية ليسعد الناس في “حمام الساحة” في قلب مدينة إربد المبنية على الطراز السوري، إذ يتميز بالبناء الحجري والسقف العالي الذي لا يخلو من الزخارف الأندلسية والنافورة التي تتوسط المكان. ويقول صاحب “حمام الساحة” عبدالحافظ حمزة، إن الفرقة انطلقت من الحمام التراثي حيث بدأت فعالياتها، إلى أن ذاع صيتها في مدينة إربد وأصبحت تستدعى في مناسبات الزفاف ولاستقبال الحجاج وغيرها الاحتفالات، مشيرا إلى أن الحمام أصبح مقصدا لمحبي الأغاني والتراث السوري. وجلب السوريون من حارات دمشق القديمة إلى شوارع المدن العربية والأوروبية لوحات جميلة من الفن الشامي الأصيل، قدموها على وقع مبارزات السيف والترس، وقد حظيت عروضهم بالإعجاب أينما حلت وبإقبال كبير على مشاهدتهم لأنهم يقدمون تراثهم من القلب لذلك يصل إلى الناس بسرعة.
مشاركة :