بات من المؤكد أن تمكين المرأة أصبح ضرورة ملحة وشرطاً جوهرياً لترسيخ الإنصاف والعدالة الاجتماعية وتحقيق الأمن والاستقرار في دول العالم. غير أن الموضوع ما زالت تعرقله عقبات وتحديات جمة في العالم الإسلامي، في وقت تتصاعد فيه أصوات وأحكام الأحزاب الشعبوية المتطرفة في الغرب وسياساتها العنصرية والإقصائية التي تؤدي بالآخر إلى جهل الإسلام ورهابه وكراهية المسلم. فالعالم الإسلامي يواجه ظروفاً استثنائية أكثر تعقيداً من ذي قبل تتجلى أساساً في اختلالات الأنظمة التربوية والأنسجة الاجتماعية، بالإضافة إلى المعوقات والحواجز الثقافية والفكرية والمؤسساتية أمام المشاركة المثلى للمرأة والتي تقف عائقاً في وجه تقدم البلدان الإسلامية في كثير من المجالات. وذلك رغم كل الجهود التي بذلتها حكومات الدول الإسلامية والمؤشرات التي تدعو إلى التفاؤل.وعلى الرغم من وجود إجماع رسمي، ولو شكلي، على أهمية إشراك المرأة في جهود تنمية الدول الإسلامية، لا تزال بقايا النظرة السلبية للمجتمع متأصلة في كثير من الأوساط المجتمعية، والتي تعتبر المرأة كائناً ضعيفاً وهشّاً ومحدود القدرات وغير مؤهل لتحمل مسؤوليات خارج أسوار البيت. وكثيراً ما تلتحف هذه الأفكار بلحاف ديني يعتبر منافسة النساء للرجال في ميادين العمل مخالفاً لتعاليم الشريعة الإسلامية. ويمكننا أن نميز هنا بين تيارين اثنين يتخذ أحدهما موقفاً ظلامياً راديكالياً حادّاً يحظر على المرأة ممارسة أي نشاط عملي خارج واجباتها المنزلية، بينما يمنح التيار الآخر مجالاً محدداً لعمل المرأة في مهن معينة، معتبراً إياها مهناً تناسب المرأة ولا تتنافى مع التعاليم الدينية.وابتداءً من العقود الأخيرة بدأت النظرة إلى وضع المرأة في المجتمع العربي والإسلامي في التغير على نحو إيجابي، معززة بوعي المجتمع للتحديات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها العالم الإسلامي وإدراكه للتحولات الكونية ولمحدودية النمط الاجتماعي التقليدي المتبع؛ مما سمح للمهتمين والخبراء أن يدركوا أن هناك اختلالات في الأنظمة الاجتماعية تعيق عملية التنمية البشرية وينبغي إصلاحها. وموازاة لذلك بدأت السياسات تتحرك في نفس الاتجاه مدعمة بالجهود الحكومية، وآخذةً في الاعتبار ارتفاع نسب التعلم وما صاحب ذلك من ارتفاع الوعي بضرورة إشراك المرأة وفتح المجال أمامها للمساهمة في تنمية المجتمع والنهوض به.إذا ما ألقينا نظرةً سريعةً على واقع المرأة في دول منظمة التعاون الإسلامي، نلاحظ أن المرأة حاضرة بقوة في معظم المجالات الحيوية؛ فكثير من الأسر في المدن والأرياف تعتمد أساساً على جهود امرأة واحدة ووحيدة؛ ونرى نساء ناشطات في مجالات التعليم والصحة والتجارة والتصنيع. وشاهدنا سيدات رائدات في العمل السياسي والدبلوماسي، كما لا يخفى على أحد ما تقدمه المرأة من إبداع في مجالات الفنون والثقافة كالمسرح والسينما والآداب؛ وهي لا تحتاج إلا لبعض التقدير والتشجيع والاعتراف ولو قليلاً بالجميل بالدعم والتكريم.ولكن في معظم الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي لا تزال جهود تمكين المرأة تواجه عراقيل وتحديات متنوعة ومتفاوتة في جسامتها وقوتها حسب الثقافات السائدة في كل دولة ومجتمع.ومن أشد العراقيل إقصاءً وإضعافاً للمرأة الموظفة والعاملة؛ عدم مواءمة معظم القوانين المعمول بها مع خصوصيات المرأة، حيث يتطلب إعدادها إشراك المستهدفين والمستفيدين من تلك القوانين خاصة العنصر النسائي، وذلك في إطار الإصلاحات المؤسساتية والقانونية المعروفة اختصاراً بتحليل أو تقييم تأثير القانون Regulatory Impact Analysis Assessment التي تهدف إلى مراجعة وغربلة المنظومة القانونية لإزاحة الشوائب غير القابلة للتطبيق منها وتجاوز العراقيل أمام تسهيل العمل بها وإدخال مبادئ وأهداف التنمية المستدامة. كما أن هنالك عراقيل تحد من دمجها في الأسلاك الأمنية والعسكرية التي يحتاج إلى مزيد من «الأنسنة»، نظراً لكون القوانين في هذه المجالات تمت صياغتها أصلاً من طرف الرجال ومفصلة على مقاساتهم وحدهم ناسين أو متناسين احتمال ظهور الحاجة إلى وجود عنصر النساء في هذه الأسلاك وخصوصيات «شقائقهم».وإضافة إلى ما سبق، يبقى الأمر مرهوناً بإرادة وجهود المجتمع بما فيه من الفاعلين ورواد الفكر والأسرة التربوية ووسائل الإعلام والمواطنين العاديين، فعلينا إذن جميعاً أن نساهم في تحقيق النهوض بالمرأة لصالح مجتمعنا ومستقبل أبنائنا وبناتنا في بلداننا.ويشكل وعي المرأة وثقتها بنفسها وبقدرتها على التأثير في المجتمع، المدخل الأول إلى تحقيق هذا التمكين وإلى تمتعها بحقوقها والقيام بواجباتها.إن منظمة التعاون الإسلامي بوصفها جهازاً دولياً حكومياً تعتمد جهودها وإنجازاتها على ما تقرره حكومات الدول الأعضاء بطريقة توافقية ليست دائماً سهلة المنال. وفي هذا السياق يمكن تلخيص جهود المنظمة في مجال تمكين المرأة في العمل على تنفيذ الأهداف التي أقرها الميثاق المؤسس والبرنامج العشري للمنظمة 2025 في إطار نشر التعاليم والمبادئ والقيم الإسلامية والتعريف برؤية الإسلام الصحيح في مجال حقوق المرأة، وتتجسد هذه الجهود في إعداد ومتابعة تنفيذ القرارات التي تصدر عن القمة الإسلامية ومجلس وزراء الخارجية والاجتماعات الوزارية القطاعية. وفي هذا الصدد تم حتى الآن عقد 6 مؤتمرات وزارية حول دور المرأة في تنمية الدول الأعضاء في المنظمة، حيث جعلت كلها موضوع تمكين للمرأة أحد أهدافها الرئيسية وأولويات عملها، واتخذت منه بنداً قائماً في خطط عملها منذ انعقاد أول مؤتمر خاص بدور المرأة في التنمية سنة 2006 في إسطنبول، حيث تم اعتماد أول قرار يطلب من الأمانة العامة تحضير «خطة عمل منظمة التعاون الإسلامي للنهوض بالمرأة (أوباو) والتي تم اعتمادها في 2008 في القاهرة ومن ثم تمت مراجعتها وتضمينها المعايير الدولية وفقاً لأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة واعتمادها في نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 2016 في إسطنبول.وتستعد المنظمة حالياً لتنظيم المؤتمر الوزاري السابع حول دور المرأة في تنمية الدول الأعضاء في واغادوغو، بجمهورية بوركينافاسو كأول دولة أفريقية تنظم مؤتمراً خاصاً بتمكين المرأة في العالم الإسلامي. ومن المتوقع أن تتميز مخرجات هذا المؤتمر عن سابقيه، نظراً إلى رفع الحكومات لسقف تطلعاتها في مجال تمكين المرأة ودورها في تنمية الدول، إضافة إلى حرص الأمانة العامة على تعزيز روابط المنظمة بالمجتمعات، وضرورة إصدار قرارات وتوصيات أكثر فاعلية وقابلية للتنفيذ في إطار برامج تنموية تكرس المضي قدماً في مسار تمكين المرأة. كما سيتميز مؤتمر واغادوغو بمنح جائزة المنظمة الأولى للمرأة المتمكنة، التي تضاف إلى الجائزة التي يمنحها الجهاز المتخصص لمنظمة التعاون الإسلامي، البنك الإسلامي للتنمية في المجال ذاته، اعترافاً بجميل جهود المرأة وتأثيرها الإيجابي في التنمية وتشجيعاً للنساء على بذل مزيد من الجهد والعمل للتمكين الذاتي لفائدة المجتمعات الإسلامية.واستشهاداً لما سبق، حرصت الأمانة العامة على مضاعفة عدد النساء الموظفات تحت مظلتها، من بينهن سيدات يشغلن مناصب عليا، مما يمثل تجربة ناجحة تساهم في فتح الباب واسعاً لتحقيق آمال وطموحات المرأة والفتاة في العالم الإسلامي وداخل المؤسسات الدولية، إضافة إلى إسهام الأمانة العامة في نشر الوعي حول ضرورة تمكين المرأة وذلك عبر الفعاليات المختلفة والبيانات الصحافية الرسمية.إذا كان إعداد العقول وتعزيز التنمية البشرية يتصدر أولويات برامج وسياسات الدول الأعضاء ويتطلع المواطن إلى تحقيقه، فإنه يتعين على المرأة والرجل أن يدركا معاً حق الإدراك ضرورة تغيير ما بأنفسهما، سبيلاً إلى مصالحة الإنسان مع ذاته والوعي بضرورة إصلاح مكامن الاختلال في الأنظمة الاجتماعية بغرض تطوير الحياة في كل تجلياتها... حياة لا مجال فيها للإساءة ولا للإهانة لفظاً أو معاملة. ولا بد للمرأة أن تخرج من دائرة الشك في قدراتها وضعف الثقة بنفسها وأن ترفض كل ما من شأنه أن يعيق مسيرة النهوض بها بذريعة الأعراف السلبية المغلفة بغطاء الدين والتي تتعارض مع مبادئ رسالة الإسلام النبيلة من حيث التكريم والتشارك في تحمل مسؤوليات أداء الأمانة.- المديرة العامة للشؤون الثقافية والاجتماعية والأسرة بمنظمة التعاون الإسلامي
مشاركة :