يفرق فلاسفة الوجود بوجه عام بين العلم بمعناه النظري الدقيق وبين التفلسف بوصفه فعلاً باطنياً وتجربة شخصية قبل كل شيء ويحمل الفيلسوف كارل ياسبرز (1883– 1969) في الجزء الأول من كتابه (فلسفة) حملة شعواء على العلم وموضوعيته المزعومة، وكأنما هو أصلح وسيلة للكشف عن حقيقة العالم ويسوق الحجتين التاليتين لتأييد هجومه: فالمعرفة العلمية بالطبيعة لا يمكن أن تكتمل في صورة كونية تامة لأن نتائج البحث العلمي تتولد منها مشكلات جديدة وأساليب جديدة لمواجهة هذه المشكلات، كما أن المناهج العلمية من الكثرة والتعدد بحيث لا يمكن أن تّرد إلى منهج واحد موحد، بل أن مجرد الوعي بأن العلم نفسه عملية تركيب وتحليل لا ينتهيان يشير إشارة كافية إلى أن الحياة العقلية والعلمية لا يمكن أن يحيط بها البحث التجريبي والعلمي نفسه، فالوجود فى الواقع هو وجودان أو له على الأقل بعدان مختلفان: الوجود الذاتي الحميم أو الحقيقي الأصيل من ناحية والوجود العلمي غير الأصيل من ناحية أخرى، والوجود الأول هو الذي يشارك فيه الإنسان بوصفه وجوداً قوامه التحقق والمعاناة والتجربة الباطنة، وهو وجود يفلت من البحث الموضوعي بمناهجه العقلية والتجريبية ويعبر عنه ياسبرز في كتابه (مدخل إلى الفلسفة) بقوله: إن الإنسان في الأساس لأكثر مما يمكنه أن يَعرِف عن نفسه. ويرى ياسبرز في كتابه (تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية) أن الإنسان حين يمضي عبر الزمان وهو يزاول فعله ونشاطه في العالم، ويراقب الكائنات والدلالات، ويستعين بالأفكار والمفاهيم فهو يمضي متجهاً نحو الوجود الذي يتكشف له من خلال الأهداف التي يسعى لتحقيقها والشخصيات التي يلتقي بها، والأفكار التي يستوعبها، دون أن يتجلى له هذا الوجود أبداً على نحو نهائي في صورة الواقع الواحد الكلي، وفي أثناء عملية التكشف هذه التي لا تكتمل أبداً- يصبح الوعي هو الشرط الضروري لنمو الإنسان وتقدمه وإصراره على تجربه الواقع، والمعرفة بمفهومها الفلسفي أو المعرفة العملية لا تمثل سوى جانب واحد منها) ينبغي أن تؤخذ بمعنى أوسع وهو ما يقتضي التجرد من الأحكام المسبقة والإدراك الواضح لكل أساليب الوعي بالواقع، وكل أساليب تجلي هذا الواقع ذاته. والواقع متضمن في جميع أحوال الشامل وأنحائه التي ينبثق عنها في أشكال محددة ونسبية. وهو موجود في وحدة الشامل، في الكينونة أو الوجود الواحد الذي يمكنه، بوصفه المتعالي، أن يتكلم خلال كل شيء، وتاريخ الفلسفة هو التحقق التاريخي للأبدي على النحو الذي تم به تصوره. وهو يفترض أن الإنسان، في علاقته المباشرة مع الله ، قادر في كل لحظة على أن يلمس الأبدية من خلال الوجود الحاضر في شموله وإحاطته. والوعي بالوجود لدى ياسبرز لا سبيل إليه إلا أن يجرب الفرد تلك الموافق الأساسية النادرة التي يسميها "المواقف الحدية" فتوقظ فيه حقيقته الباطنة التي هي قانون حريته تلك المواقف التي يعاني فيها الإنسان تجارب العذاب، والشعور بالذنب والإخفاق، وفقد الأعزاء ، ووطأة الصدفة المباغتة، وضياع الثقة بالعالم هنا يحس الإنسان أنه يصطدم بجدار لا منفذ منه ولا سبيل إلى تخطيه، ويتبين عجزه عن مواجهته بكل ما لديه من قوى عقلية وقدرات عملية، والإخفاق الذي يهز الإنسان من جذوره يمكن من ناحية أخرى أن يهديه الطريق إلى وجوده، ويكشف في داخله البعد الباطن الذي كان خافياً عليه، ويكون ذلك بانفتاح الإنسان على الشامل أي بإدراك الحقيقة في موقف الإنسان المفكر نحو نفسه في أفعاله الباطنة، فالوجود باعتباره وجوداً لا يمكن أن يكون موضوعياً، وكل ما يصبح موضوعاً بالنسبة إلى ينفصل – في مواجهتي- عن الشامل .بينما انفصل أنا عنه باعتباري ذاتاً. وكما يذهب ياسبرز في كتابه "سبيل إلى الحكمة" فإن الموضوع بالنسبة إلى الأنا عبارة عن وجود محدد. أما الشامل فيبقى غامضاً بالنسبة لوعيي ، وهو لا يتضح إلا من خلال الموضوعات. ويزداد وضوحا كلما أصبحت الموضوعات أشد وعياً وأكثر وضوحاً، والشامل لا يصبح هو نفسه موضوعاً وإنما يظهر في ثنائية "الأنا" و"الموضوع" ويظل هو نفسه خلفية تنير الظواهر إلى غير حد، ولكنه لا يزال دائماً الشامل. والتفلسف عن الشامل معناه النفاذ إلى الوجود نفسه، وهذا لا يمكن أن يتم إلا عن طريق غير مباشر، لأننا حين نتحدث نرتبط بالتفكير في الموضوعات. ومن خلال هذا التفكير في الموضوع ينبغي أن نحصل على دلائل تشير إلى اللاموضوع أي إلى الشامل. والإيمان بالله ليس مصدره في حدود التجرية الدنيوية وإنما في حرية الإنسان، والإنسان الذي يبلغ الوعي الصادق بحريته يكسب اليقين في الله، فالحرية والله لا ينفصلان، لأنني فى حريتي لا أكون من خلال نفسي، وإنما أعطى لنفسي إذ استطيع أن أخطئ نفسي، ولكنني لا أستطيع أن أغتصب حريتي، وحين أكون نفسي حقيقة، فأنني أكون على يقين بأنني لست كذلك عن طريق نفسي، وأسمى أنواع الحرية هي الحرية التي نعانيها بوصفها حرية من العالم وهذه الحرية عبارة عن رباط عميق يربطنا بالعلو. ويسمي ياسبرز حرية الإنسان وجوده أيضاً، ويرى أن يقين الإنسان بالله له ما لوجوده من قوة إذ يستطيع أن يكون على يقين منه لا على أنه مضمون من مضامين العالم، بل على أنه مضمون إزاء الوجود. وإذا كان يقين الحرية يشتمل على اليقين بوجود الله فلابد أن هناك صلة بين إنكار الحرية وإنكار الله.. فإذا لم أكابد معجزة الذاتية، فلست بحاجة إلى أية علاقة بالله، بل أقنع بوجود الطبيعة التجريبي وبآلهة وشياطين كثيرين، وهناك من ناحية أخرى صلة بين الاعتقاد بأنه من الممكن أن توجد الحرية بغير الله وتأليه الإنسان.. وهذه حرية وهمية اعتباطية تؤخذ فيها إرادة الإنسان على أنها مطلقة ومستقلة. فالجوهري في عبارة (الوجود الإلهي) هو الحقيقة التي تشير إليها ونحن لا نحيط بهذه الحقيقة حين نفكر في هذه العبارة لأن التفكير المجرد فيها يتركنا فارغين، ذلك أنها لا تعنى شيئاً بالنسبة للذهن أو التجربة الحسية.. إنما ندرك معناها فحسب حين نتعالى .وحين نتجاوز عالم الموضوعات ومن خلاله نكتشف الواقع الأصيل ومن ثم فإن ذروة حياتنا وهدفها هما النقطة التي نؤكد عندها الواقع الأصيل، أي الله. تلك هي مقاربتنا للإيمان بالله عند ياسبرز في ظل الواقع الفكري الغربي وذلك بعيداً عن الواقع الفكري للإسلام الذي يقول الدكتور عبدالغفار مكاوي عن مدى علاقة ياسبرز به في مقدمته لأحد كتبه: لعله لا يعرف عن صفوة مفكريه وعلمائه وحضارته شيئاً يذكر.
مشاركة :