الاتفاق المؤلف من 500 صفحة الذي تم التوصل إليه خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بشأن شروط الانفصال بين الجانبين، كان محلَّ انتقاد وتنديد من كل الأطراف. لكن رغم أنه يمثل وثيقة مخيبة للآمال، فإنه قد يكون الصفقة الوحيدة الممكنة قبل انتهاء المهلة القانونية لخروج بريطانيا («بريكسيت») من أوروبا في ربيع 2019. أعضاء الاتحاد الأوروبي يكرهون الاتفاق، لأنهم لم يرغبوا أبداً في رحيل بريطانيا. وأغلبية من البرلمان البريطاني تكرهه، لأن الاختصاصات ليست هي ما كانوا ينتظرونها، وتكاليفه المالية أعلى مما كانوا يتوقعون. ومن المرتقب أن يصوّت البرلمان على قبول الاتفاق من عدمه في الحادي عشر من ديسمبر. لكن في الوقت الراهن، لا يبدو أن رئيسة الوزراء تيريزا ماي لديها الأصوات الكافية للفوز بالموافقة عليه. ذلك أن عدداً من الوزراء البارزين في حكومتها أعلنوا أنهم سيصوّتون ضد الاتفاق. وكذلك فعل زعماءُ حزب العمال المعارض، إضافة إلى أعضاء «الحزب الوحدي الديمقراطي» الصغير من إيرلندا الشمالية الذي تحتاج ماي إلى دعمه من أجل الحفاظ على الأغلبية في البرلمان. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الاحتمالات، فإن جهود حزب المحافظين الحاكم الرامية إلى تنحية ماي واستبدالها بشخص آخر في منصب رئاسة الوزراء، لم تحقق أي شيء حتى الآن، لأسباب من بينها حقيقة ألا أحد يرغب في أن يرث اتفاقاً يشدّد الاتحادُ الأوروبي على أنه نهائي ولا يمكن إدخال أي تعديلات عليه. ولهذا السبب هناك احتمال ضئيل في أن تستطيع ماي تعبئة الرأي العام والحصول على فوزٍ في البرلمان عبر القول إن الاتفاق، ولئن كان أبعد ما يكون عما كان يريده معظم أنصار البريكسيت، فإنه الصفقة الوحيدة المتاحة، والبديل هو ما يسمى «بريكسيت قاسية» تغادر بموجبها بريطانيا الاتحاد الأوروبي دون أي اتفاق بين الجانبين، مع ما ينطوي عليه ذلك من فوضى محتملة في ما يتعلق بما سيحدث للاقتصاد البريطاني، ومصير المواطنين البريطانيين الذين يعيشون في الاتحاد الأوروبي، ومستقبل الحدود بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا، وعشرات الأزمات الممكنة الأخرى، مثل الوصول إلى الأدوية، والاتفاقيات التجارية، والسياحة، وقوانين الهجرة. وفي حال خسرت ماي التصويت في ديسمبر، فإن لدى حكومتها مهلة 21 يوماً للإعلان عن خطواتها المقبلة. ونظراً لأن من شأن التصويت بـ«لا» أن يتسبب في ارتباك كبير في الأسواق المالية العالمية، فإن تطوراً جديداً قد يحدث بسرعة. وفي هذا الإطار، يمكن أن تستقيل ماي وتترك مهمة إصلاح الفوضى لشخص يخلفها من داخل حزبها. أو يمكن أن يطاح بها من قبل حزبها نفسه، والذي سيضطر حينها لاختيار زعيم جديد. كما يمكن أن يقوم حزبُ العمال المعارض بالدعوة إلى تصويت على حجب الثقة عنها في البرلمان. وإذا ما صوّتت الأغلبية لذلك، فإن الزعيم العمالي المحسوب على أقصى اليسار جيريمي كوربن يمكن أن يصبح رئيساً للوزراء. غير أنه حتى الآن، لم تصدر عن كوربن أي إشارة واضحة حول ما ينوي فعله بالاتفاق عدا قوله إنه سيحصل على صفقة أفضل. لكن في حال فشل التصويت على سحب الثقة، ووافق البرلمان بأغلبية الثلثين، فإن البلاد يمكن أن تشهد إجراء انتخابات جديدة. وتحت هذه الظروف، قد يكون الاتحاد الأوروبي مستعداً لتأخير مهلة الخروج النهائي لبريطانيا. غير أن الانتخابات الجديدة يمكن أن تشمل دعوات لإجراء استفتاء جديد قصد مراجعة مشكلة «الانسحاب» أو «البقاء» الجوهرية. ذلك أن عدداً من المسؤولين البريطانيين البارزين والمسؤولين السابقين، مثل رئيس الوزراء السابق توني بلير، يدافعون بشدة عن فكرة إجراء استفتاء جديد، لاعتقادهم بأن أنصار «الانسحاب» ضللوا الشعب البريطاني بشأن سهولة البريكسيت ومزاياه. وبينما تواجه بريطانيا اختباراً صعباً جداً بشأن مستقبلها، فإن أعضاء الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين الآخرين لديهم مشاكلهم الخاصة بهم، والتي ينبغي عليهم التعاطي معها، مثل زعيمي ألمانيا وفرنسا اللذين أُضعفا مؤخراً، والحكومات ذات النزعة الاستبدادية المتزايدة في بولندا والمجر وإيطاليا. وبالتالي، ففي لحظة ما، قد ينفد صبر الاتحاد الأوروبي مع بريطانيا وقد تصبح «بريكسيت قاسية» أمراً لا مناص منه رغم العواقب الوخيمة التي سترتب عن ذلك. وباختصار، فإن الشهر المقبل قد يشهد أسوأ أزمة تعرفها أوروبا والمملكة المتحدة منذ الأيام الأولى للحرب الباردة في أربعينيات القرن الماضي. *مدير البرامج الاستراتيجية في مركز «ناشيونال إنترست» -واشنطن
مشاركة :