حتى في نظام البصمة الحديث هناك من يحضر ويبصم في أول وقت الدوام، ثم يذهب إلى بيته أو عمل غير دوامه، وإذا انتهى الدوام حضر ليبصم عندما قدم شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- من رحلته العلاجية في أميركا، والتي توفي بعدها، رحمه الله، حرصت على استقباله والسلام عليه والاطمئنان على صحته، رحمه الله، وكانت خطبته الأولى بعد مجيئه من تلك الرحلة في «مدينة الطائف»، وأظن أن الجامع الذي خطب وصلى فيه يسمى باسم الصحابي الجليل عبدالله بن عباس، رضي الله عنه، وكنت حاضرا تلك الخطبة، فلما صعد شيخنا على المنبر وسلم على الناس، وأذن المؤذن، صرت أفكر، يا ترى عن ماذا ستكون خطبة الشيخ؟ بعد هذه الرحلة العلاجية المتعبة، وبعد أن انتشر في جسمه المرض، رحمه الله، ماذا ستكون تلك الخطبة التي ستكون ربما خطبة مودع؟ هل سيتحدث عن بُعْد الغرب الذين جاء من بلادهم عن الدين؟ هل سيتحدث عن الموت؟ هل سيتحدث عن الدنيا وغرورها؟ وبينما أنا أفكر، وقف الشيخ -رحمه الله- على المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم تحدث عن موضوع «المحافظة على الدوام»، وفسّر قوله تعالى (ويل للمطففين.الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) وقال: إن الذي يأخذ راتبه كاملا، ولا يقوم بعمله كاملا، يعد من المطففين... واستطرد في ذلك. ولا ريب أن اختيار الشيخ لهذا الموضوع يدل على أهميته وخطورته، لأن المال إذا دخل من حرام فإن صاحبه على خطر عظيم، لكونه مضيعا للأمانة، وسيسأله الله تعالى عن هذا المال، من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ ولن ينفعه إذا قال: كل الناس أو أكثرهم لا يداومون كما يجب؟ أو عسى ما «يجينا» من الذنوب إلا هذا، كما يقوله المفرطون، فالجميع سيحاسَب، والإنسان مسؤول عن نفسه، فليس له أن يُفرّط، محتجاً بتفريط غيره. ومما يدل على خطورة المال الحرام ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم أن: (الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّماءِ يا رَبُّ.. يا رَبُّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟). وإذا كان كثير من الناس اليوم لا يلقون بالاً للدوام، ينتظرهم المراجعون الساعات الطوال في مكاتبهم، ولا يحضرون إلا في وقت متأخر، وقد تمضي الأيام ولم يحضروا في مكاتبهم، ويكبدون المراجعين العناء والتعب والتعطيل، ومع هذا يأخذون رواتبهم كاملة، فضلا عن الانتدابات ونحوها، ولو نقص ريال واحد من رواتبهم لأقاموا الدنيا، مع أنهم ينقصون الساعات والأيام من وقت الدوام، كما هو شأن المطففين. وحتى في نظام البصمة الحديث، هناك من يحضر ويبصم في أول وقت الدوام، ثم يذهب إلى بيته أو عمل غير دوامه، وإذا انتهى الدوام حضر ليبصم، موهما أنه في الدوام حتى نهايته، كأنه ليس هناك جزاء وحساب يوم القيامة. أقول: إذا كان هناك من لا يلقي بالاً للدوام الرسمي، فإن هناك قدوات بارزة وكثيرة بحمد الله، يُضرَب بها المثل، في استشعار الأمانة، والمحافظة على الدوام، فالخير كثير وموجود، ومن القدوات البارزة في استشعار المسؤولية، والمحافظة على الدوام، الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز، وفقه الله، فإن محافظته على الدوام، وإنجازه أعماله، وخدمته الناس، محل إعجاب وفخر، قال لي: أحد المسؤولين الأمنيين ممن عمل تحت إدارته، إن سموه لا يغيب قط عن الدوام، إلا إن كان في إجازة رسمية، وبالتالي لا نستطيع أن نذهب يمنة ولا يسرة في إجابة أي دعوة أو زيارة. فذكرت ذلك لسموه، فقال لي: الدوام أمانة أمام الله أولا وقبل كل شيء، ثم أمام الملك الذي أدينا القسم أمامه، فالإنسان عليه أن يقوم بعمله على الوجه الأكمل، فإن لم يستطع يكتب اعتذارا، ويُتيح الفرصة لغيره. فما أعظم هذا الجواب، وما أحوجنا للاقتداء بهذه القدوات الفاضلة. وفي نهاية هذا المقال، لعل من المناسب أن أنقل تفسير شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- لقوله تعالى (ويل للمطففين... الآيات)، وذلك من خلال شرحه لكتاب رياض الصالحين، قال رحمه الله: (وهذه الآية وإن كانت قد وردت في المكيال والميزان، إلا أن العامل حتى الموظف إذا كان يريد أن يعطى راتبه كاملا، لكنه يتأخر في الحضور، أو يتقدم في الخروج، فإنه من المطففين الذي توعدهم الله بالويل، لأنه لا فرق بين إنسان يكيل أو يزن للناس، وبين إنسان موظف عليه أن يحضر في الساعة الفلانية ولا يخرج إلا في الساعة الفلانية، ثم يتأخر في الحضور ويتقدم في الخروج، هذا مطفف، وهذا المطفف في الوظيفة لو نقص من راتبه ريال واحد من عشرة آلاف لقال لماذا تنقص؟ هذا مطفف يدخل في هذا الوعيد {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}، ثم قال تعالى منكرا عليهم {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم}، يعني هل هؤلاء نسوا يوم الحساب، نسوا يوم القيامة الذي هو قريب جدا؟
مشاركة :