كوميديا مسرحية تزاوج بين بريخت و"الحلقة" المغربية

  • 12/3/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تعتبر مسرحية “مقامات بديع الزمان الهمذاني” من الأعمال المسرحية الريادية في فن المسرح المغربي، ولها تاريخ حافل في العرض خارج المغرب منذ السبعينات وحتى اليوم: كسوريا وفلسطين وألمانيا وفرنسا وغيرها، وتم عرضها في البحرين، وضمن فعاليات الأيام الثقافية المغربية الأخيرة بتونس رغم وفاة مخرجها وكاتب نصها الطيب الصديقي، فها هي تواصل عروضها في تأكيد على أن الإبداع فعل متواصل لا يموت. قدمت فرقة لحظة بشراكة مع مسرح محمد الخامس بالرباط مسرحية “مقامات بديع الزمان الهمذاني” مؤخرا، وهي مستمدَّة من مقامات بديع الزمان أبوالفضل أحمد الهمذاني( 969ــ 1007م). مسرحها الطيب الصديقي (1938ــ2016)، في العام 1971 وأخرجها محمد زهير، ومثلها: جميلة الهوني، مريم الزعيمي، إيمان الرغاي، عادل أبا تراب، جمال النعمان، مصطفى الهواري وزهير أيت بن جدي. وعرضت في العديد من المدن المغربية: الرباط، الدار البيضاء، شفشاون، تطوان وغيرها، طيلة السنوات الماضية ومؤخرا عرضت بتونس. فنون الحلقة قدمت المسرحية لأول مرة العام 1972 بدمشق، واعتبرت وقتها تجربة ناجحة في تطويع التراث العربي ليخوض تجربة العرض المسرحي، واستقدام التراث العربي إلى لغة المسرح، وتقنياته السمعيبصرية. وأعادت الحياة لنصوص قديمة من لون أدبي عرف بالمقامات، جعله العرض المسرحي ضاجا بالحياة والمرح، يبعث في الجمهور السرور وفي نفس الوقت يدفعه إلى التفكير العميق في الماضي، الذي يشبه إلى حد ما، ما يعيشه الناس اليوم في بلداننا. زاوجت المسرحية بين فنون شتى من بينها: الرقص والغناء الفردي والجماعي، وفنون الحلقة ــ القص الشفاهي ــ والملحون والمطاردة الشعرية، وترديد الأمثال، والألعاب البهلوانية، إضافة إلى تقديم مشاهد وبأزياء قديمة للشحاذين والقرادين والطفيليين، والصعاليك ونازعي الأسنان ومربي الثعابين وقصاصي الحلقات، ولأصحاب المهن الشعبية المغربية الأخرى. وزاوج مؤلف المسرحية الطيب الصديقي بين هدف الكاتب الأصلي للمقامات الوعظي والترفيهي، فقد قدم الهمذاني في مقاماته دروسا لتحذير الناس من أحابيل السُرَّاق، وما يصطنعه الشحاذون لاستدرارعطفهم وأموالهم، إضافة إلى تضمين المقامات المواعظ الأخلاقية والدينية، التي تروى بلسان عيسى بن هشام. وفي كل مقامة يفاجأ ابن هشام بأبي الفتح الإسكندري، الذي يتقمَّص شخصيات متعددة في المقامات. ومن مقامات الهمذاني التي قدمتها المسرحية نذكر المقامة الوعظية، وبعدها المقامة الخمرية التي يعظ فيها أبوالفتح الناس، ويدعوهم لمكارم الأخلاق ثم يكتشف أن بين المستمعين لوعظه مجموعة من المخمورين. وعندما يقترب منهم يتعرف على نوع الخمر الذي تناوله هؤلاء السكارى، لأنه من المجربين لهذا الصنف من الخمور. وردد صفاته على الناس بصوت غاضب ثم أخذ يكبر، كأنما كان يصلي على ميت. وحين يسأله الناس مستغربين من صلاته على الميت، متسائلين: أين هذا الميت الذي تصلي عليه؟ يجيبهم: أن ميتهم هو الإيمان! وحالما ينتهي من الوعظ يذهب إلى حانة قريبة من المكان، ليطلّ على مرتاديها ويلقي اللوم على الدولة التي تحاسب فيها شرطتها السكارى على سكرهم بالرغم من سماحها لبيع الخمور في الدكاكين. المخرج مزج فنون المسرح العالمي والتراث المغربي كالبَساط وفنون الحلقة والفرجة وفنون سيدي الكتفي التراثية قدمت المسرحية العديد من تلك المقامات بشخصيات مغربية تراثية، كوميدية: كحديدان، المسيّح، البهلوان، المهرج والراوي. ومن المقامات التي تمت مسرحتها، المقامة القردية التي يروي فيها الراوي أنه كان عائدا من بيت الله الحرام في طريقه إلى دار السلام ــ بغداد ــ فانتهى إلى حلقة من الرجال والنساء مزدحمين، وهم في ضحك متواصل، من قَرَّاد يلاعب قرده (أجاد دوره مصطفى الهواري) وفي العرض الذي قدمه الطيب الصديقي كان القرد دُمية من قماش يلاعبها كيفما شاء. والقرد يقفز بين المتحلقين، وسط الغناء الفردي والجماعي. ويكتشف عيسى بن هشام أن القرَّاد هو صاحبه السابقأبوالفتح الإسكندري وما أن يتعرف عليه القرَّاد حتى يرد عليه بقصيدة مغناة، يذم بها الدنيا وأحوالها الحالية. يشاركه في الغناء بشكل فردي، وكورس الرجال والنساء. تقول كلمات الأغنية: هذا زمان مشؤوم/ كما تراه غشوم/ الحمق فيه مليح/ والعقل عيب ولوم/والمال طيف ولكنه/حول اللئام يحوم. المسرح البريختي في المقامة الأصفهانية، يعود عيسى بن هشام من أصفهان مع قافلة، وفي طريقه إلى دار السلام يرغب بتأدية صلاة الجماعة في الطريق مع مجموعة من المصلين، إمامهم من المتعصبين، ممن يطيلون في صلاتهم. وخلال صلاته مضت قافلته بعيدا، وهو لا يزال مع مجموعة المصلين، وهو يتحرق لبلوغ الصلاة نهايتها، لكي يغادر الجماعة ويلتحق بقافلته، ولكن الأسوأ حدث. إذْ بعد الصلاة ألقى الإمام خُطبة عصماء، وسم فيها كل من يغادر الجماعة وقت الصلاة والخُطبة بالزندقة، فحجزته الخُطبة عن اللحاق بقافلته التي مضت بعيدا واختفت عن ناظريه. وبعدها المقامة المكفوفية والدينارية وغيرها، وكلها تحكي عن معاناة الفقراء والشحاذين واللصوص والعيارين، فحكت عن عصر طواه الزمن، وأعادته لنا مشاهد المسرحية بلون، وهموم عصرية مع الموسيقى والرقص والغناء وترديد الأمثال والقصائد القصيرة المغناة من الملحون. وتوالت المقامات، كالمضيرية والمجاعية والساسانية، وفيها نشاهد زعيم الشحاذين يحاصر الراوي، ومعه مجموعة من الشحاذين الساسانيين وهم يطلبون الحسنة بإلحاح، وهم يغنون ويرقصون. وتتكرر المقاطع الغنائية ترددها مجموعة الممثلين والممثلات خلال مشاهد المسرحية مع الموسيقى وتغيير اللحن بين مشهد وآخر، فنسمع مقاطع من الملحون والألحان الأندلسية وإيقاعات موسيقى “غناوة” المغربية. وقد زاوج المخرج بين فنون المسرح العالمي والتراث المغربي كالبَساط ــ مفردها بَسطة ــ وفنون الحلقة والفرجة وفنون سيدي الكتفي، التراثية في كل العروض التي قدمت فيها كمسرحية كوميدية هادفة في داخل المغرب وخارجه، كما حرص من قبل مؤلفها ومخرجها الطيب الصديقي عند تقديمها لأول مرة في السبعينات. وقدمها المخرج محمد زهير بميزات المسرح الملحمي البريختي، الذي يجعل الجمهور مشاركا، لما يعرضه بالرأي والتعليق أو حتى بالمشاركة بالغناء الذي يسمعه الجمهور يتردد على خشبة المسرح. وكذلك لم يجعل الحدث الدرامي متناميا كما في المسرح التقليدي، فيصير وسيلة للتطهير العاطفي للجمهور. فلا نجد في المسرحية العقدة والحل للحدث الدرامي، فهو مسرح خال من أي ذروة درامية. وجعل فيها فنونا تراثية مغربية شعبية، سمعية ومرئية، وما يدور عادة في “الحلقة” خصوصا تلك الحلقات التي نجدها في “ساحة الفنا” بمراكش، وفيها مختلف الفنون: كالحكي والتمثيل والرقص والغناء والموسيقى ومهارات عروض القِرَدة.

مشاركة :