منصات التواصل الاجتماعي وجدت لتجعل حياة الناس أكثر رفاهية وكفاءة، إلا أن مخاوف الخبراء، من أن تستهلك تلك المواقع أكبر قدر من وقت الناس ووعيهم، تتعاظم يوما بعد يوم. أصبحت وسائل الإعلام الاجتماعية جزءا لا يتجزأ من حياة حوالي ثلاثة مليارات شخص حول العالم، أي ما يعادل 40 بالمئة من سكان الكرة الأرضية، وينفق هؤلاء ما معدله ساعتان يوميا في تصفح محتوياتها، فيما ينشرون أكثر من نصف مليون تغريدة كل دقيقة. وكان من المفترض أن تجعل المواقع الاجتماعية حياة الناس أكثر رفاهية وكفاءة، لكن من المفارقات أنها تساهم أيضا في تفاقم مشاكل الصحة النفسية، وقد تؤدي الضغوط الناتجة عنها إلى نوبات قلبية وعدم انتظام في ضربات القلب وحتى الموت المفاجئ. وعلى مدى عقود، ساور الخبراء قلق من تأثير التكنولوجيا على الصحة العقلية وتسببها في رفع وتيرة الضغوط ومشاكل الصحة النفسية، فقد كان ينظر إلى القطارات والآلات الصناعية على أنها مزعجة وصاخبة وتضع البشر على حافة الهاوية، لكن مع تغلغل الهواتف الذكية والحاسبات اللوحية والكمبيوتر وألعاب الفيديو في حياة الناس عكف الخبراء على دراسة داء استشرى في القرن الحادي والعشرين، وبات يهدد حياة الأجيال القادمة ورفاهيتهم. ويخشى الخبراء من الاستخدام المفرط للإنترنت بشكل عام، ومن وسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص، ودورهما في رفع منسوب الإجهاد والقلق ومشاكل الصحة العقلية في صفوف الأطفال والشباب. ولاحظ الخبراء الكثير من المؤشرات التي تؤكد وجود صلة بين اعتلال الصحة النفسية وبين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، فرغم الأثر الإيجابي والدور الذي تلعبه في عملية التواصل، والفرصة التي أتاحتها للناس للتنفيس عما بداخلهم، سواء حول موضوعات سياسية أو اجتماعية واقتصادية، إلا أن البعض من الخبراء يعتقدون أن التعليقات والتغريدات تشبه في الغالب موجة لا تنتهي من التوتر والضغوط. 40 بالمئة من البشر أصبحت الوسائل الاجتماعية جزءا من حياتهم واستشهد علماء نفس بريطانيون بأدلة لدى مجموعة من المراهقين أبلغوا عن تغيرات مزاجية حادة انتابتهم جراء استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي، وأخرى لفتيات، واجهن مشاكل في تصورهن لهيئة أجسادهن بسبب الصور التي يشاهدونها على منصات التواصل الاجتماعي. وقال طبيب بريطاني يدعى رانغان تشاترجي، إنه لاحظ كثيرا من الأدلة على وجود صلة بين اعتلال الصحة النفسية وبين استخدامهم وسائل التواصل الاجتماعي. وذكر تشاترجي أن مراهقا يبلغ 16من العمر عاما، قد أحيل إليه بعد أن جرح جسده وانتهى به الحال إلى غرفة الطوارئ بالمستشفى ففكر في إخضاعه لبعض مضادات الاكتئاب، لكنه بعد أن تحدث معه، اكتشف أن استخدامه لوسائل التواصل الاجتماعي كان له أثر سلبي على صحته. ودفعت حالة المراهق وحالات أخرى مشابهة له تشاترجي إلى الجزم بدور وسائل التواصل الاجتماعي في التأثير السلبي على الصحة النفسية للشباب والمراهقين. وتابع تشاترجي “أعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت مشكلة كبيرة، ونحن بحاجة إلى بعض القواعد، منها كيفية توجيه المجتمع إلى الاستفادة من التكنولوجيا لمساعدتنا بدلا من أن تضرنا”. وكشفت إحصاءات رسمية نشرتها هيئة الصحة الوطنية في بريطانيا (أن.إتش.أس)، مؤخرا، أن نحو واحدة من كل أربع شابات في إنكلترا تعاني من مشكلات المرض النفسي، وتمثل الاضطرابات العاطفية والكآبة والقلق من الظواهر الأكثر شيوعا بين هذه المشكلات. وأظهرت الإحصائيات أن نسبة تعرض الشابات في عمر 17 إلى 19 سنة لهذه المشكلات كانت ضعف تعرض الشباب في العمر نفسه لها، مع وجود نسبة 23.9 بالمئة من الاضطرابات النفسية لدى الشابات. وتبدو هذه المشكلات أقل شيوعا في الفئات العمرية الأصغر من هذا السن، لكنها رغم ذلك تشهد زيادة بطيئة. وتصبح النسبة لدى الأطفال من سن 5 إلى 15، واحدا من كل تسعة يعاني من اضطرابات، أي أنها ارتفعت عن نسبة واحد من عشرة والتي كانت عليها في المسح الذي أجري قبل 13 عاما. مخاطر الفضاءات الافتراضية تهدد الصحة النفسية للأجيال القادمةمخاطر الفضاءات الافتراضية تهدد الصحة النفسية للأجيال القادمة وأكدت الدكتورة النفسية، برنادكا دوبيكا، من جامعة “رويال كوليج” أن أرقام الفتيات الشابات اللواتي يعانين من هذه المشكلات النفسية “مقلقة”. وذكرت دوبيكا أن الهواجس بشأن شكل الجسد وإجهاد الامتحانات ووسائل التواصل الاجتماعي قد تؤثر جميعها بشكل سلبي على الفتيات، في الوقت نفسه يمكن أن يَكنّ أكثر عرضة لأن يصبحن ضحايا لإساءة المعاملة والاعتداءات الجنسية في المواقع الاجتماعية. وأظهرت مراجعة قام بها جهاز الإحصاء الصحي الرقمي البريطاني أن الأطفال في عمر 11 إلى 19 عاما الذين يعانون من مشكلات الصحة النفسية هم الأكثر استخداما لوسائل التواصل الاجتماعي. ويقضي ثلثهم أكثر من أربع ساعات في اليوم على منصات هذه الوسائل. أما أولئك الذين لا يعانون من مشكلات الصحة النفسية فكانوا أقل، بنسبة 2 إلى 3 مرات، في قضاء مثل هذا الوقت في وسائل التواصل الاجتماعي. وكان الشباب الذين يعانون من مشكلات الصحة النفسية أكثر عرضة للقول إن عدد “علامات الإعجاب” التي يحصلون عليها في وسائل التواصل تؤثر عليهم، وأكثر عرضة لمقارنة أنفسهم مع الآخرين في وسائل التواصل الاجتماعي. وهنالك دراسة أميركية تدعم وجهة النظر هذه، قام بها باحثون في مركز بيو للأبحاث في واشنطن في عام 2015، وحاولوا من خلالها معرفة ما إذا كانت وسائل الإعلام الاجتماعية تؤدي حقا إلى المزيد من التوتر أكثر مما تعالجه. الأشخاص المستطلعة آراؤهم في الدراسة أكدوا أن ميزات المجتمعات الافتراضية تطغى بدرجة كبيرة على المساوئ المتأتية منها وكشف الاستطلاع الذي أخضع له حوالي 1800 من الجنسين، أن مواقع التواصل الاجتماعي تسبب الإجهاد للنساء أكثر من الرجال، وصنف تويتر على أنه “مساهم كبير” في ذلك لأنه زاد من وعي النساء بضغوط الأشخاص الآخرين عليهن. وتصنف النساء على أنهن النسبة الأكثر استخداما لمنصة تويتر، وتصل النسبة إلى 18 بالمئة، في الفئة العمرية بين 25 إلى37 عاما، مقارنة بـ8 بالمئة للرجال من نفس الفئة العمرية. وكانت أبحاث سابقة، قد أشارت إلى أن النساء يتعرضن لكميات هائلة من البلطجة والاعتداء على الإنترنت، مقارنة بالرجال، ولكن كان من المتوقع أن أغلب هذه الاعتداءات تأتي من الذكور وليس بين النساء أنفسهن، إلا أن العكس هو الصحيح. ولم يتم العثور على نفس نسب التأثير السلبية بالنسبة إلى الرجال، وقال الباحثون إن علاقة الرجال مع وسائل الإعلام الاجتماعية ليست وطيدة كما هو الأمر بالنسبة إلى النساء، مشددين على أن استخدام وسائل الإعلام الاجتماعية يرتبط عموما بمستويات معينة من الإجهاد والقلق والاضطرابات النفسية. وتوصلت دراسة أخرى نشرت في دورية “الكمبيوتر والسلوك البشري”، إلى أن الأشخاص الذين يقولون إنهم يستخدمون سبعا أو أكثر من منصات التواصل الاجتماعي، يكونون أكثر عرضة لمستويات مرتفعة من القلق بنسبة تزيد على ثلاثة أضعاف، مقارنة بالأشخاص الذين يستخدمون منصة أو اثنتين من منصات التواصل الاجتماعي، أو الذين لا يستخدمونها مطلقا. لكن مع ذلك، لا توجد أدلة قاطعة حول ما إذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي تسبب القلق والاضطراب، أو حول كيفية حدوث ذلك. وقال الباحثون من جامعة “بي.بي.يو” في رومانيا، والذين أجروا في عام 2016 مراجعة واسعة للعديد من الأبحاث التي تتناول العلاقة بين مواقع التواصل والشعور بالقلق الاجتماعي، “إن النتائج في هذا الشأن كانت مختلطة”، وبناء على ذلك طالبوا بإجراء المزيد من الأبحاث حول طبيعة هذه العلاقة.
مشاركة :