عندما قلت لصديق عراقي عزيزي إنني سمعت للتو بوفاة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش «الأب»، وأفكر بكتابة مقالتي الأسبوعية عنه... ردّ بصمت قصير لم يفتني أن فيه بعض خيبة الأمل. أدركت فوراً وقع فكرتي عليه، لكن صمته المهذّب أتاح لي توضيح ما قصدته. والحقيقة أنني لست من حملة المباخر ولا المُغالين في مواقفهم من أهل السياسة - سلباً أو إيجاباً - بل أحاول، كباحث سياسي، رصد الظواهر وتحليلها واستنتاج الخُلاصات، ولا سيما، تلك التي تؤثر وستؤثر في حياتنا ومصير شعوبنا. ومن ثم، فإن القراءة الجادة لسيرة قائد دولة كبرى لا تعتمد على نزعة ذاتية عاطفية، بقدر ما تحاول ربط المعطيات ودرس المؤثرات والانعكاسات على الحاضر والمستقبل. في منطقتنا العربية، ارتبط اسم جورج بوش «الأب» بتحرير الكويت عام 1991. وفي العالم ككل، إبان «الحرب الباردة»، اتسمت مقارباته الدبلوماسية الهادئة بكونها أقل حدة من المقاربات «الآيديولوجية» لسلفه الرئيس رونالد ريغان، ولاحقاً، لابنه جورج بوش «الابن». إلا أن ما يهمنّي، في هذا السياق، بعد رحيل الرجل، هو التفكير في مصير التيار السياسي الذي كان يمثله، وهل ما زال هناك قواسم مشتركة بين «مدرسته السياسية» وما نراه من حولنا على المسرح الدولي؟ هل يؤشر غياب بوش «الأب» إلى طي نهائي لصفحة السياسة الأميركية والدولية كما عرفناها بين نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية «الحرب الباردة» التي تلتها؟ بل، هل يشكل نهاية لشكل الحزب الجمهوري الأميركي الذي ألفناه مع بوش «الأب»، وربما كان آخر ممثليه في واجهة السياسة الأميركية السيناتور والمرشح الرئاسي الراحل جون ماكين؟ أذكر أنني تابعت مسيرة جورج بوش، وأنا الفتى الفضولي المهتم بالسياسة الأميركية، عندما كان عضواً في مجلس النواب... وخاض عام 1970 معركة دخول مجلس الشيوخ عن ولاية تكساس، لكنه خسرها أمام منافسه الديمقراطي لويد بنتسن. الهزيمة تلك لم تؤثر سلباً في سليل العائلة السياسية العريقة ذات المكانة في ولايات نيو إنغلاند بشمال شرقي الولايات المتحدة. بل، بفضل مزايا بوش الشخصية، وأيضاً لكونه ابن «المؤسسة» السياسية والمالية النخبوية المحرّكة للحزب الجمهوري، ما كانت الهزيمة سوى نكسة على الطريق... سرعان ما وجد بعدها خطواته، وتابع مسيرته صعوداً. بنتسن أيضاً، لم يتقاعد في مجلس الشيوخ مع أن نفوذ الحزب الديمقراطي كان قد أخذ بالتراجع والانحسار في تكساس، حيث كانت له ذات يوم «ماكينة انتخابية» قوية جداً. إذ عيّن «السيناتور العجوز» وزيراً للمالية في عهد الرئيس بيل كلينتون، وهذا بعدما كان خاض انتخابات الرئاسة الأميركية في موقع نائب الرئيس مع المرشح الرئاسي الديمقراطي مايكل دوكاكيس عام 1988. ولعل من المفارقات، أن تلك الانتخابات انتهت بفوز جورج بوش بالرئاسة متغلباً على دوكاكيس... ومحققاً «ثأراً» انتخابياً متأخراً من غريمه القديم بنتسن! جورج بوش يمثل «حزباً جمهورياً» مختلفاً يعيش - وفق التقديرات - أيامه الأخيرة في معقله القديم.... نيو إنغلاند، حيث العائلات الأنغلو سكسونية «القديمة الهجرة». وربما إذا خسرت السيناتورة سوزان كولينز مقعدها في ولاية مين، بعد سنتين خلال الانتخابات المقبلة لمجلس الشيوخ، لن يبقى في هذا المجلس أي سيناتور من أي من ولايات نيو إنغلاند الست (مين ونيوهامبشير وفيرمونت وماساتشوستس ورود أيلاند وكونكتيكت). أصلاً، بوسطن، أعرق المدن الأميركية و«عاصمة» الثقافة والعلم في الولايات المتحدة، والمدينة التي ولد جورج بوش في إحدى أغنى ضواحيها، كانت - مثل ولايتها ماساتشوستس - حصناً انتخابياً للجمهوريين. وكانت عائلاتها الثرية الأرستقراطية «الجمهورية» تؤسس الشركات وتنشئ أغنى المدارس وترعى أرقى الجامعات. يومذاك كان الحزب الجمهوري البيئة الطبيعية لجورج بوش وأمثاله. أبوه بريسكوت بوش، وهو ابن صناعي ثري، كان عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ عن ولاية كونكتيكت. وقبل أن يسير ابنه وحفيده «الرئيسان» على خطاه، تخرّج بريسكوت بوش مثلهما في جامعة ييل الشهيرة. ثم إن العائلة، فيما بعد، اعتادت تمضية الإجازات في ولاية مين، مع أن مقتضيات السياسة والمال حملت أبناءها بعيداً إلى ولايتي تكساس وفلوريدا. أما اليوم فإن الحزب، الذي تقاسم جورج بوش معه إرثه السياسي، حالة مختلفة تماماً. وأميركا التي عرفتها أجيال عائلة بوش، من «الجد» بريسكوت إلى «الحفيدين» جورج «الابن» و«جيب» حاكم فلوريدا، أيضاً أميركا مختلفة تماماً. جيل بوش «الأب» يشبه كثيراً جيلاً موازياً في حزب المحافظين البريطاني كادت تقضي عليه مارغريت ثاتشر هو جيل «محافظي الأمة الواحدة» المعتدل. وحقاً، عندما خاض بوش انتخابات الرئاسة، في الأساس، فإنه خاضها في وجه الظاهرة «الريغانية» قبل أن تقضي ضرورات توحيد صفوف الحزب بجمع «المتشدّد» رونالد ريغان و«المعتدل» جورج بوش في قائمة واحدة. وبالفعل، بعد تحقيق «التوازن» وجمع الصفوف كسب الجمهوريون ثلاثة انتخابات رئاسية متتالية بين 1981 و1993. ثم عندما تقرّر أن يكون بوش مرشح الحزب للرئاسة عام 1988، اختير نائبه من تيار «المتشدّدين» الريغاني، وهو دان كوايل السيناتور اليميني من ولاية إنديانا. بوش، رغم خدمته العسكرية المميّزة في الحرب العالمية الثانية، ثم خبرته الاستخباراتية وهو الذي شغل منصب مدير «السي آي إيه» (1976 - 1977)، كان يؤمن بالسياسة والحوار. ورغم خلفيته الأرستقراطية وثرائه الشخصي كان سياسياً مرناً يجيد قرع الأبواب والتحاور والتفاهم حتى مع الخصوم، ولذا اختير ليكون «مديراً لمكتب التواصل» مع الصين الشعبية... مكملاً عملية الانفتاح على العملاق الشيوعي الأصفر، التي كان بدأها جمهوري آخر اسمه ريتشارد نيكسون. اليوم شروط اللعبة تغيّرت! الحزب الجمهوري تغيّر، ومثله أميركا... ومثلهما العالم. التفهم والتفاهم باتا عبئاً على أهل السياسة، يهربان منهما إلى الإقصاء وإلقاء اللوم على الآخرين. ما عاد العالم يتسع للتعايش، ولو بشروط. حتى الاقتصاد الحر، باتت حريته مشروطة... وما عادت تهمة «العنصرية» تدعو إلى الخجل، حتى في المجتمعات التي استعمرت الدنيا بحجة نشر الحرية والتنوير والتسامح... وحقوق الإنسان!
مشاركة :