أسئلة الأزياء جزء أصيل من التاريخ الثقافي - الاجتماعي

  • 12/3/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تشكل "أسئلة الأزياء" جزءا أصيلا من التاريخ الثقافي-الاجتماعي بقدر ما قد تثير بعض الوقائع المتعلقة بالأزياء جدلا صاخبا يشارك فيه مثقفون وتتعدد فيه الآراء باختلاف التوجهات.وفي عصر ثورة الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي المنتشرة على الشبكة العنكبوتية بمحاسنها ومثالبها يحلو للبعض الإسهاب في الحديث بالكلمة والصورة عن "الفساتين العارية في مهرجانات سينمائية" دون أن يلقي بالا للأيادي والعقول المبدعة لفتيات مصريات في كل أوجه الحياة اليومية وعلى امتداد الوطن وبعض قصصهن تشكل حقا "أمثولة لمعنى الإرادة ومغالبة الشدائد ومجابهة أقسى التحديات وإعلاء قيمة العمل البناء".وكانت نقابة المهن التمثيلية قد أصدرت يوم الجمعة الماضي بيانا حول "مشكلة سببها فستان ارتدته إحدى الفنانات المشاركات في الحفل الختامي للدورة الأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي" لافتا الى ان "المظهر الذي بدت عليه بعض ضيفات المهرجان لا يتوافق مع تقاليد المجتمع وقيمه وطبائعه الأخلاقية الأمر الذي أساء لدور المهرجان والنقابة المسئولة عن سلوك أعضائها".وذكرت نقابة المهن التمثيلية في بيانها :"ورغم ايماننا بحرية الفنان الشخصية ايمانا مطلقا فإننا نهيب بهم إدراك مسئوليتهم العامة تجاه جماهير تقدر فنهم..ولذلك سوف تقوم النقابة بالتحقيق مع من تراه يتجاوز في حق المجتمع وسيلقى الجزاء المناسب حتى نضمن عدم تكرار ذلك بالتنسيق مع الإدارة العليا للمهرجانات واتحاد النقابات الفنية".وفي خضم تداعيات هذه الواقعة دار نوع من الجدل في صحف ووسائل اعلام وترددت أسئلة تدخل بالفعل في "ثقافة الأزياء" مع اجتهادات لتحديد الخط الفاصل بين "الحرية الشخصية لكل انسان في ارتداء ما يحلو له من ملابس وبين حق المجتمع في عدم خدش الحياء العام على الملأ فضلا عن احترام قيمه المعبرة عن ثقافته وهويته وقواعده المتعارف عليها عبر تاريخه للذوق والفطرة السوية".ولئن تحدث البعض عن خطورة مثل هذه الممارسات المثيرة للجدل والمتعلقة بالملابس على صغار السن الذين قد يحاولون تقليد هذه الممارسات فثمة آراء ذهبت في هذا السياق الى رغبة بعض المنسوبين لحقل التمثيل في "لفت الأنظار بأي ثمن وإثارة الاهتمام في مواقع السوشيال ميديا ولو بارتداء ملابس صادمة للذوق العام والمتعارف عليه مجتمعيا في ثقافة الأزياء".وفيما يشكل كل مجتمع ذوقه في الأزياء عبر ثقافته وعاداته وتقاليده فإن هناك بعض المصطلحات الدالة ثقافيا في مأثورات المجتمع المصري وأمثاله الشعبية مثل :"كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس" وبعضها أيضا يرتبط بأماكن عرفت بالتميز في صناعة المنسوجات مثل عبارة "كستور المحلة" التي تشير للكستور الخارج من مصانع مدينة المحلة الكبرى في دلتا مصر ناهيك عن عبارات تخص ملابس فئات بعينها وذات دلالات تاريخية مثل "عروة الصديري الشاهي" وهي عبارة كانت تتردد في الريف المصري. وقد يكون هذا المجال ساحة لكتابات طريفة وتدخل أيضا في التاريخ الثقافي-الاجتماعي مثل طروحات ودراسات عن "تاريخ دخول البيجاما للريف قادمة من الحضر " والمواجهات "بين الجلباب وبين القميص والبنطلون" ومدى ارتباط مثل هذه الظواهر بالتحولات الاجتماعية-الاقتصادية فضلا عن كتابات ترصد "فرحة الأطفال في محال الملابس او القماش وتسجيل المقاسات بين يدي الخياط قبيل العيد الذي يقترن بارتداء ملابس جديدة".وفي العام الماضي ثار جدل حول ما يعرف بظاهرة "البنطلون الجينز المقطع" وهي ظاهرة استهوت بعض الشباب فيما وصفت "بموضة جديدة" ورأى البعض أنه "من غير اللائق الدخول بهذا البنطلون المقطع للجامعات ودور العلم" فيما رأى البعض الآخر "انها مجرد موضة سرعان ما تختفي لتحل محلها موضة خرى" مستهجنين ما وصفوه "بمحاولات تنميط الملابس وفرض زي موحد على الجميع كنظرة تصب في مربع مناوئ للتنوع".وتاريخ "صناعة وتفصيل الملابس جزء اصيل من التاريخ الثقافي-الاجتماعي لأي مجتمع كما أن التغيرات في صناعة الموضة دالة على متغيرات ابعد واعمق من مجرد الملابس" من هنا تتعدد في الغرب الكتب والدراسات التي تتناول تاريخ صناعة الملابس ومتغيرات الموضة.وهكذا تظهر كتب تتحدث عن أساطين صناعة الموضة وبيوت الأزياء في الغرب مثل الكسندر ماكوين مصمم الأزياء البريطاني الذي قضى انتحارا في الحادي عشر من فبراير عام 2010 وقد حظى بأكثر من كتاب شأنه شأن مصمم الأزياء الشهير في الغرب جون جاليانو والذي ولد عام 1960 في اسبانيا غير انه انتقل مع عائلته للعاصمة البريطانية لندن فيما تحول ماكوين وجاليانو الى "علامة دالة بعمق على ثقافة الموضة في بريطانيا ودول أخرى بالغرب".وفي مواجهة غلو وتصاعد تيار اليمين المتطرف المعادي للأجانب والمهاجرين في الغرب عمد بعض المناوئين لهذه النظرة الاستعلائية والمتعصبة "لارتداء تيشيرتات تحمل رسومات وعبارات ساخرة من هذه النظرة المتطرفة".والأزياء ترتبط بتيارات وحركات وظواهر اجتماعية مثل ظاهرة "الهيبسترز" التي يعرفها الغرب الآن مثلما عرف من قبل صعود ظاهرة الهيبيز ستينيات في القرن العشرين فيما لم تبدأ كلمة "الهيبسترز" في الانتشار بالغرب إلا منذ عام 2010 على الرغم من أنها مشتقة من حركات ثقافية غربية ظهرت في أربعينيات القرن الماضي وتحمل كمفردة شيئا من رائحة هذه الحركات وتلاوينها وظلالها .والهيبسترز في الغرب يفضلون موسيقى البلاك ميتال وازياء المغني الأمريكي ايرل سويتشرت وجوارب التنس البيضاء ويركب بعضهم احيانا دراجات هوائية غريبة الشكل والبعض الآخر يفضل ازياء شخصية "باتمان" الشهيرة او قد يرتدي نظارات طبية كبيرة دون حاجة فعلية لها ناهيك عن هؤلاء الذين لا يخلعون نظاراتهم الشمسية حتى في الغرف المظلمة ، فالملابس والأزياء دالة عليهم حتى ان الكاتبة ديانا تورتوريتشي تقول:"نعرفهم اذا رأيناهم".وكأي ظاهرة جديدة فإنها تثير مشاكل وتحديات للباحثين حتى في الغرب, فكلمة"الهيبسترز" كمصطلح وتعريف مازالت تعاني من عدم الشفافية وكثير من الالتباسات والغموض وفي معاجم الانجليزية تعني كلمة الهيبستر :محب موسيقى الجاز كما تدل على شباب عصري ينتمي للطبقة الوسطى ويدفع في اتجاه ما يعرف "بالاقتصاد الابداعي".ولو أردنا تقديم صورة أقرب للنمطية للهيبستر يمكننا القول أن الشاب الهيبستر يرتدي ملابس فينتاج وغالبا ما تكون بألوان قاتمة ونظارات ضخمة مع شارب ونصف رأس حليق وسترة باهتة او تي شيرت وجينز مقصوص احيانا. ومع ان ملابسه قد توحي بنوع من عدم الانسجام فهي "على الموضة" وان كان يمكن وصفها "بموضة الهامش", والواقع انهم "يدعون الاهمال او يتظاهرون به دون ان يكونوا مهملين حقا في ملابسهم.وشباب الهيبسترز لا يتبعون الموضة الرائجة بين العامة وانما يصنعون اسلوبهم الخاص في الموضة او الستايل" ويميلون لكل ما هو بعيد عن العادي لدى الجميع وهم من المغرمين بتصوير كل شىء بهواتفهم المحمولةوالهيبسترز كظاهرة اجتماعية تبدو موضع اهتمام من جانب نظام الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي يعنيه الا تنضم هذه الفئة للشباب المعروف في تركيا "بالأباتشي" او من يسمونهم بمراهقي الضواحي من اصحاب الملابس الفاقعة والقمصان المبرقشة وتصفيفات الشعر الغربية والذين كانوا وقودا للاحتجاجات العنيفة في عام 1913 بساحة تقسيم إسطنبول.وفي صيف العام الماضي شهدت العاصمة التركية انقرة مظاهرات نسائية تطالب "بحرية الملبس" فيما شملت هذه المظاهرات إسطنبول ومدينة ازمير وسط اتهامات لحكومة رجب طيب اردوغان "بانتهاج ممارسات متشددة ضد النساء" .ولئن اتجه البعض في صخب الجدل حول أزياء صادمة او خارجة عن المألوف للحديث عن "العري" ففي الغرب العري مذهب له فرق واتباع وتصدر عنه كتب مثل ذلك الكتاب الذي صدر بالانجليزية بعنوان :"التعري على الغداء :مغامرات متعري رغم أنفه" ويدور حول صحفي اضطر لخلع ملابسه حتى يعرف أسرار كل الفرق والجماعات المتنافسة في عالم العراء والتعري والمدافعين عن قدسية الطبيعة.والمدرسة القديمة في العري التي تتبنى مفاهيم فلسفية مستمدة من الطبيعة لا تنظر لهذه المسألة أي نظرة حسية بمعنى الإثارة خلافا لما قد يتوقعه البعض أو يفترضه البعض الآخر وانما الأمر مرتبط فلسفيا بالرغبة في الحياة الطبيعية تماما والبريئة من وجهة نظر المنتمين لهذه المدرسة التي تختلف عن موجات العري الجديدة.أما بالنسبة للصحفي مارك هاسكيل سميث المتخصص في مجال الصحافة الاستقصائية فقد بدا الأمر اقرب لكابوس فظيع وهو يجد نفسه وسط حشد يضم نحو الفي شخص كلهم من العرايا وانه الشخص الوحيد الذي يرتدي ملابس وماكان أمامه سوى ان يتعري مثلهم إن أراد البقاء وسطهم !.مشهد غريب حقا برجال أغلبهم من كبار السن الذين يتجاوز كل منهم ال70 عاما رصده هذا الصحفي على ظهر زورق في سياق مغامرته لاستكشاف ملامح العري المعاصر والمؤكد كما يقول أن الجماعات التي أسست على قاعدة أفكار فلسفية تنظر للعري تتراجع وتنقرض.هذه حقيقة رغم كل الضجيج والمشاهد الغريبة مثلما حدث عندما فرض المجلس المحلي لمدينة سان فرانسيسكو حظرا على التعري لتشهد هذه المدينة الأمريكية مظاهرات غاضبة احتجاجا على القرار.ويوضح مارك هاسكيل سميث في كتابه الذي يمكن وصفه بأنه نوع من الدراسة الأنثربولوجية او علم الأناسة التشاركية أن تلك الجماعات الفلسفية المدافعة عن العري تتراجع وتضمحل لأن أغلب المنتمين لها هم من أبناء الطبقة الوسطى الذين بلغوا سن التقاعد وهم يتجمعون في أمسيات حول عازف بيانو ويطلبون سماع مقطوعات لالتون جون او بيلي جويل لكنهم يضطرون لارتداء بعض الملابس أثناء جلسات اليوجا !.إنها المدرسة القديمة في العري والتي تحتضر الآن حتى أن عدد المنتمين لهذه المدرسة بمفاهيمها الفلسفية في بريطانيا قد انخفض بمقدار النصف خلال العقد الأخير كما يقول مؤلف الكتاب الذي يشير إلى أن لهذه المدرسة من يمكن وصفهم بالمنظرين لفلسفتها في جبال الألب النمساوية وهي المنطقة التي ولدت فيها أفكار التعري كمذهب لمحبي الطبيعة لحد الذوبان فيها والتوحد معها .وهذا الاتجاه القديم او المدرسة الغابرة في العري ترمي في الواقع ضمن مقاصدها لإزالة النظرة الإثارية الحسية للجسد الإنساني وهي مسألة يؤكد عليها الكاتب مارك هاسكيل سميث المرة تلو المرة في كتابه الجديد فيما ظهر اتجاه في العري مخالف لتلك المدرسة مع أفكار مغايرة للفرنسي اميل ارماند الذي نشر طرحا بعنوان غريب حقا هو :"التعري الثوري" !.وهذا الطرح عمد لتسييس مسألة التعري معتبرا انها تخدم قضايا الحريات الاجتماعية والسياسية وصولا لما يسميه "بالانعتاق الإنساني" وهو طرح يفتقر للوضوح والتماسك كما يقول مؤلف الكتاب مارك هاسكيل سميث غير أن هذا الفرنسي كان مسؤولا عن الخروج على الأفكار البريئة لأصحاب المدرسة القديمة التي تلفظ تماما النظرة الحسية والمعاني الإثارية للجسد الإنساني العاري.فمع أفكار اميل ارماند التي ظهرت منذ عام 1934 راحت النظرة الحسية والمعاني الإثارية تقترن بمذهبه في التعري ومضت تخرج من دائرة الأقوال لحيز الأفعال في منتجعات بجنوب فرنسا حسبما يرصد الكاتب مارك هاسكيل سميث الذي نجح في كتابه في الإفلات من فخ الوقوع في الابتذال وهو يناقش موضوعا كهذا بقدر ما نجح أيضا في تفادي إطلاق أحكام نهائية أو قاطعة حول هذا الموضوع.غير أن الموضوع يتخذ في الواقع المعاصر أشكالا مبتذلة وأبعد ما تكون عن أي أفكار فلسفية أو خلفيات ثقافية وواقع الحال أن القضاء في بلد كالولايات المتحدة بات يتخذ مواقف مناهضة لهذا النوع من التعري المقترن بالإثارة والابتذال رافضا مقولة أن التعري نوع من التعبير بالجسد..فهذا اختزال يشوه الواقع ويفرغ الحركة من معناها بقدر ما يشوه نضال المرأة ودورها.. ويا له من دور جليل كما تكشف عنه إيقاعات التاريخ والحاضر بأسلوب مصري خالص..فمصر الكبيرة تقول دوما :"نعم لحرية المرأة أما ثقافة التعري فمرفوضة"...طوبى لمن لا يطعن البراءة في سويداء القلب!.

مشاركة :