قاس علماء للمرة الأولى أنماط الدماغ العميقة المتقلبة على مدى أيام عدة، وكوّنوا صورة عن البصمة العصبية للمزاج العكر في حالة مرضى القلق. صحيح أن فهمنا الحالات العصبية، مثل القلق والكآبة، حقَّق تقدماً كبيراً على مدى سنوات، إلا أن فجوات كبيرة ما زالت تتخلل معرفتنا هذه. لكن محاولة فك التفاعلات الداخلية في البنية الأكثر تعقيداً في الكون ستصطدم بعقبات كثيرة بالتأكيد. في عملية ما زالت تبدو أقرب إلى السحر، تتشابك مشاعرنا، وإحساسنا بنفسنا، وعواطفنا معاً لتشكّل تجربة واحدة: الوعي. ويعود هذا إلى تريليونات الوصلات بين الخلايا العصبية. كشفت سنوات من البحث أدوار مناطق مختلفة من الدماغ. على سبيل المثال، نعرف أن الحصين يؤدي دوراً مهماً في الذاكرة وأن اللوزة تسهم في معالجة المشاعر. لكن مجرد تحديد النشاطات التي تقوم بها مناطق معينة لا يمنحنا فهماً أعمق لكيفية معالجة الدماغ، هذا الطيف الحيوي من التجارب والمشاعر. الغوص في تعقيدات المزاج يختبر الجميع تقلبات عاطفية. ولكن في حالة البعض، تكون هذه التقلبات حادة جداً، حتى إنها تحدث خللاً كبيراً في حياتهم. نتيجة لذلك يُعتبر المزاج موضوع درس مهماً. يسمح التصوير بالرنين المغناطيسي وغيره من تقنيات التصوير للعلماء بمراقبة الدماغ بتفصيل لم يسبق له مثيل. بينما يقبع المشارك بلا حراك في نفق الجهاز الضيق، يستطيع الباحثون تعريضه لمحفزات مشحونة عاطفياً، ثم مراقبة كيفية تفاعل الدماغ معها فيما تتبدل المشاعر من الإيجابي إلى السلبي. صحيح أن هذه الدراسات كشفت معلومات عن التفاعلات الداخلية في دماغنا، إلا أن التمدد داخل جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي مختلف كل الاختلاف عن واقع الحياة الحقيقية. صمَّم أخيراً باحثون للمرة الأولى تجربة تقيس روابط المزاج العصبية في أوضاع من واقع الحياة. قاد الفريقَ عالم الأعصاب الدكتور إدوارد تشانغ والعالم النفسي وعالم الأعصاب الدكتور فيكاس سوهال، وكلاهما عضوان في معهد ويل للعلوم العصبية في جامعة كاليفورنيا بسان دييغو. قياس نشاط الدماغ في الواقع تتطلب مراقبة تفاعلات دماغ الإنسان الدقيقة تلو الأخرى مجموعة فريدة من المشاركين. استعان الباحثون بـ21 شخصاً يعانون الصرع ويحملون أساساً 40 إلى 70 قطباً مزروعة في سطح دماغهم وبعض البنى الأكثر عمقاً. تلقى المشاركون هذه الأقطاب استعداداً للخضوع لجراحة استئصال أجزاء من الدماغ مسؤولة عن النوبات. سمحت هذه الأقطاب المزروعة للعلماء برسم مخطط لنشاط الدماغ طوال سبعة إلى عشرة أيام. وخلال هذه الفترة، سجّل المشاركون التبدلات في مزاجهم مستخدمين استبانة على جهاز لوحي. بهذه الطريقة، استطاع العلماء الربط بين تبدلات المزاج وبين نشاط الدماغ باستخدام خوارزميات صممتها الباحثة التي أشرفت على تقرير الدراسة، الدكتورة لوري كيركبي. ونُشرت الاكتشافات التي توصل إليها الفريق أخيراً في مجلة «الخلية». شبكات تناسق داخلية قبل دراسة يوميات المزاج، بحث العلماء في بيانات الدماغ بحثاً عن شبكات تناسق داخلية. تتألف هذه الشبكات من مجموعات من مناطق الدماغ تنشط معاً غالباً. واعتبر العلماء أن هذا النشاط المتناسق يعني أن هذه المناطق تعمل وتتواصل معاً. عندما قارن العلماء بيانات كل المشاركين الواحد والعشرين، اكتشفوا «زمراً» عدة في مناطق الدماغ تُطلق معاً غالباً وفق الوتيرة ذاتها. في حالة 13 من المشاركين، نشطت زمرة محددة بشكل خاص. وفي التقييم الأولي لهذه المجموعة، تبين أن كلهم عانوا معدلات عالية نسبياً من القلق. كذلك كشفت البيانات أن هذه الزمرة، حين تنشط، ترتبط بمشاعر تراجع المزاج. لاحظ الباحثون خصوصاً نشاطاً مشتركاً في الحصين ولوزة الدماغ، تألف من موجات بيتا، التي تشكّل نظماً سبق أن ربطه العلماء بالتفكير القلق. شكّل اكتشاف نمط واضح مماثل في نشاط مجموعات الدماغ مفاجأة للباحثين. يوضح الدكتور سوهال: «فوجئنا كثيراً عندما حددنا إشارة واحدة كانت مسؤولةً بالكامل تقريباً عن نوبات المزاج المكتئب لدى هذا العدد الكبير من الناس». مجرد البداية وسمت هذه الدراسة بداية سلسلة من البحوث، لذا شكّل اكتشاف نمط واضح إلى هذا الحد في مستهل العمل مفاجأة مرحباً فيها. لذلك يؤكد الدكتور سوهال: «فاق اكتشاف مؤشر حيوي منوّر قوي مماثل توقعاتنا كافة في هذه المرحلة من المشروع». علاوة على ذلك، شكّل اكتشاف نشاط الدماغ المميز هذا في حالة 13 مشاركاً مفاجأة لم تقل أهمية عن مفاجأة غيابه في حالة المشاركين الآخرين الذين لم يعانوا قلقاً قوياً إلى هذا الحد. قد تقدم هذه الاكتشافات أدلة بشأن الطرائق المختلفة التي يعالج من خلالها مَن هم أكثر عرضة للقلق المعلومات العاطفية. يضيف الدكتور سوهال: «استناداً إلى ما نعرفه عن بنى الدماغ هذه، يشير ما اكتشفناه إلى أن التفاعلات بين اللوزة والحصين قد ترتبط باسترجاع الذكريات العاطفية، وأن هذا المسار يكون قوياً خصوصاً في حالة مَن يعانون معدلات عالية من القلق ومَن قد يتأثر عندئذٍ مزاجهم بقوة باستعادة الذكريات المحملة بالمشاعر». لا شك في أن العلماء سيجرون المزيد من البحوث، لكن الدكتور سوهال متحمس كثيراً للنتائج التي توصلوا إليها حتى اليوم. يوضح: «كعالم نفس، من المفرح جداً أن أتمكن من البدء بتقديم إطار مفهومي للمرضى يساعدهم على فهم ما يمرون به عندما يكون مزاجهم عكراً». قد يسهم هذا العمل أيضاً في تقدّم أساليب التشخيص. يوضح الدكتور تشانغ: «لهذه الاكتشافات انعكاسات علمية تعمّق فهمنا حجم الدور الذي تؤديه مناطق محددة من الدماغ في اضطرابات المزاج. كذلك لها انعكاسات عملية لأنها تساعد في التوصل إلى مؤشرات حيوية من الممكن استخدامها بغية تطوير تكنولوجيا جديدة مصممة لعلاج هذه الاضطرابات».
مشاركة :