هل يدفع القارئ المصري ثمن صحافة لا تنشر سوى البيانات الحكومية الرسمية، وباتت نسخا مكررة في غياب التنوع في الأخبار والمعلومات والتحدث فقط بلسان الحكومة، فيما الصحافي محاصر بالمحظورات والممنوعات، وممنوع عليه تغطية أي حدث حتى وصول التصريحات الرسمية. القاهرة - ساد اعتقاد لفترة طويلة بأن مهنة الصحافة في مصر هي مهنة البحث عن المتاعب، لأنها تتطلب مجهودا كبيرا من المحرّرين، لكنْ الآن تحول عدد كبير من هؤلاء إلى مجرد متلقين لبيانات تصدرها مؤسسات رسمية، وعليهم الالتزام بنشرها من دون زيادة أو نقصان. ولم يعد تصفّح الجريدة، ورقية كانت أو إلكترونية، يستغرق أكثر من 5 دقائق، لأنها لا تتضمن جديدا يدفع الناس للتمعن فيها، فلا قضية مثيرة، ولا واقعة فساد. بل مجرد كلام إنشائي أرسلته الوزارات والهيئات المختلفة لمندوبي الصحف والمواقع في بيانات ركيكة، عن إنجازاتها وتصريحات ولقاءات وجولات مسؤوليها، وبضعة مقالات عن توجهات الحكومة. انتشرت صحافة البيانات بكثافة، وأضحت موضة تسيطر على المشهد الإعلامي برمته، في المؤسسات الصحافية والمواقع الإلكترونية والقنوات التلفزيونية، وهو ما ساد أيضا لدى فنانين ولاعبين رياضيين وغيرهم، الكل يعتمد على إعداد بيان يتم إرساله لجميع الصحافيين، وهذا جانب آخر ضاعف من معاناة الإعلام. وكانت البيانات الرسمية تقتصر على أخبار وقضايا مؤسسات بعينها، مثل رئاسة الجمهورية ووزارات الخارجية والدفاع والداخلية، بذريعة أنها جهات سيادية، لكنّ المتابع عن قُرب لما يجري الآن يكتشف أنها تحولت إلى مسألة عامة تسعى لتعليب الإعلام. وبدأ هذا الاتجاه يسود أكثر عندما تكرّرت أخطاء بعض المحررين في تغطياتهم أو نقل تصريحات المسؤولين، لكنها انتهت إلى انحراف تام عن هدفها الأساسي، وتحولت إلى نمط يتم التعامل معه كأمر واقع لا فكاك منه. ويقول محمود (ع)، صحافي يعمل بجريدة مستقلة في تصريح لـ”العرب”، إن وزيرا بالحكومة اتصل برئيس تحرير صحيفته، واشتكى منه، وطالبه باختيار صحافي آخر لتغطية نشاط وزارته، بذريعة أنه يستبق البيان الصحافي، وعندما سأل رئيس التحرير الجريدة، الوزير، عن صحة ما يُنشر من عدمه، أجاب الأخير بأنه صحيح، لكن طريقة الصياغة نفسها مرفوضة. وتتعاظم مخاطر التزام الصحف بالبيانات الرسمية، مع وقوع حادثة إرهابية أو إثارة قضية سياسية شائكة أو الكتابة عن دول عربية شقيقة لمصر، ويرفض غالبية رؤساء التحرير التطرق إليها، إلا من خلال كلام رسمي ولو تأخر ساعات، لدرجة أن أكثر وكالات الأنباء الدولية والصحف والقنوات العربية والأجنبية، تنشر التفاصيل قبل الصحف المحلية. سيطرة صحافة البيانات على المشهد الإعلامي عملية كارثية، لأنها تمهد لتصفية المؤسسات الإعلامية بمضاعفة خسائرها وأكد محمـد (اسم مستعار)، وهو صحافي آخر يعمل في موقع إخباري يتبع مؤسسة صحافية حكومية، أنه من المحظورات الكتابة عن حدث مرتبط بمؤسسة مهمة، إلا من خلالها. وأشار إلى أن رئيس تحريره قال له بالحرف “إذا رأيت بعينيك الرئيس عبدالفتاح السيسي يتجول في ميدان التحرير بوسط القاهرة، والتقطت له مجموعة صور تبرهن صحة كلامك، لن ننشرها، وسنعتمد على بيان وصور الرئاسة.. وإذا وقعت حادثة إرهابية محظور النزول إلى موقع الحدث لتغطية تفاصيلها، حتى لو كان مكانه مجاورا لمبنى الصحيفة.. علينا أن ننتظر بيان وزارة الداخلية”. وانعكس الالتزام الحرفي بالبيانات على الجمهور، وتسبّب في اعتماده التام على متابعة الإعلام الأجنبي، ما جعل الصحافي في مصر أقرب إلى الموظف الإداري الذي يعمل لدى جهة حكومية، مفوض بتغطية نشاطها، وليس صحافيا مخولا بمهمة مطاردة المسؤولين لتوثيق معلوماته. وقال صفوت العالم، أستاذ الصحافة والإعلام بجامعة القاهرة، لـ”العرب”، إن سيطرة صحافة البيانات على المشهد الإعلامي عملية كارثية، لأنها تمهد لتصفية المؤسسات الإعلامية بمضاعفة خسائرها بعد تهاوي شعبيتها، وتفقد الحكومة نقطة اتصال أساسية، كان من الممكن تطوير محتواها، ولن تجد الوسيلة التي تخاطب الناس من خلالها، ويضطر الجمهور إلى متابعة الإعلام الأجنبي بتوجهاته المختلفة. وضاعف ذلك من أزمات الإعلام في مصر، بعدما تراجعت معدلات التوزيع والمشاهدة والمتابعة إلى مستويات قياسية، كما أن الجهات المعلنة خفضت ميزانياتها، ما تسبّب في تدهور الوضع الاقتصادي في مؤسسات إعلامية عديدة. وأوضحت إيمان (م)، وهي صحافية مسؤولة عن تغطية أخبار وزارة الخارجية لـ”العرب”، أن هناك أزمة يعاني منها قطاع كبير من الصحافيين، تكمن في أنه لم تعد لهم هيبة عند المصادر أو الجهات المسؤولين عن متابعتها، لأنها تعتبرهم بمثابة موظفين ليس لهم حق الاجتهاد، وأصبحت صورتهم “كموالين للحكومة وبلا أنياب ولا خوف منهم، لأن ما سوف يكتبونه تم تدقيقه مسبقا”. ومهما كانت مبررات الصحافي حول السياسة التحريرية، والإفصاح عن تدخل بعض الجهات في ما يُنشر وما لا يُنشر، لا يقتنع الناس بذلك، ووجدوا مطالبهم وهمومهم ومشكلاتهم بعيدة عن التناول الإعلامي. وإذا قرر المحرر القيام بتحقيق ميداني عن آراء الشارع في أي قضية، قد يتعرّض للاعتداء، بعدما وصلت العلاقة بين الجمهور والإعلام إلى حد العداء. ويشير حمدي عزت، أحد أشهر بائعي الصحف في حي المطرية، إلى أن “النسخ كانت تنفد عندما كانت هناك صحافة تخاطب الناس ولا تخاطب المسؤول.. إذا طالعت أي جريدة، سوف تجدها نسخة مكررة من الكل”. وأكد لـ”العرب” أن التكرار وغياب التنوع في الأخبار والمعلومات والتحدث فقط بلسان الحكومة، جعلت الناس يعزفون عن شراء الصحف.. بعض التجار أصبحوا يشترون الأعداد الأسبوعية للصحف لاستخدامها في تغليف بضاعتهم، لأنها تحتوي على عدد ضخم من الصفحات بسعر لا يتجاوز ثلاثة جنيهات (17 سنتا). يكفي هذا المشهد لتلخيص واقع الصحافة في مصر.
مشاركة :