يشهد القطاع الفلاحي في تونس تهميشا من قبل الحكومة على أهميته الاقتصادية، حتى أن اليد العاملة فيه أصبحت قليلة، فهجر معظم الشباب مدنهم الصغيرة لأنهم لا يجنون من الفلاحة الموسمية ما يجعلهم يستمرون، وأصبحت الفلاحة تكاد تقتصر على النساء اللاتي يعملن في موسم جني الزيتون يساعدهم في ذلك بعض الرجال المتقدمين في العمر. تونس- جني الزيتون في تونس ليس كغيره من المواسم.. تبدأ الاستعدادات له مبكرا وينتظره الجميع بشوق.. فهو فرصة لقاء تحت ظلال شجرة مباركة. ويحتل موسم جني الزيتون مكانة متميزة في النشاط الفلاحي ليس لاعتبارات اقتصادية فحسب، وإنما أيضا لاعتبارات رمزية لتشبث أكثر من جيل بعادة أسلافه ومواصلة لنشاطهم. عند الساعات الأولى من كل صباح شتوي تكسوه نفحات الهواء البارد يتوجه العمال وأغلبهم من الأيدي الناعمة والرجال المتقدمين في العمر الذين يؤمنون بقيمة هذا المنتوج إلى حقول الزيتون لجني المحصول السنوي، فالشباب لا يفضلون العمل في هذا القطاع المهمش بأجرة يومية ضئيلة. تقول صالحة التي أجبرتها ظروف عائلتها على ترك مقاعد الدراسة مبكرا، وتعمل الآن بشكل موسمي في القطاع الفلاحي بمنطقة “سبالة بن عمّار” من محافظة أريانة، “موسم جني الزيتون موسم عمل بالنسبة لي أجني فيه بعض المال الذي أصرف بعضه على متطلبات الحياة اليومية، وأدخر بعضه للأيام العجاف”، مضيفة، “يبدأ يومي طيلة فصل الشتاء منذ الساعة الرابعة صباحا، أضع ما تبقى من عشاء الليلة الماضية في إناء بلاستيكي، وأملأ قنينة ماء من الحنفية، ألبس ثيابا متينة لتقيني من برد الشتاء، ثم أخرج في انتظار الشاحنة التي تقلني مع بقية نساء القرية إلى الحقل”. وفي الشاحنة تلتصق رفيقات صالحة ببعضهن بحثا عن شيء من الدفء طيلة الطريق المؤدية إلى الحقول حيث يبدأن يومهن القاسي. تبادل الحديث والمزاح وأحيانا ترديد لبعض الأغاني الشعبية والضحكات تتناثر بين ثنايا هذه الحقول، هي السّبيل الوحيد للعاملات المتفانيات ليمر يومهن بعيدا عن الإحساس بالتعب والشقاء رغم صعوبة المهمة. وتمتلك تونس حوالى 88 مليون شجرة زيتون على مساحة مليون و800 ألف هكتار، وينطلق موسم جني الزيتون فيها عادة في نوفمبر ويتواصل إلى بداية مارس. تحت كل زيتونة، توضع الفرشة، وهي أقمشة طويلة يتم وضعها تحت جذع الزيتونة حتى تسقط فوقها حبات الزيتون، وتنصب السلالم، وتأخذ النساء أمشاطهن وتتسلق أخريات السلالم أو تتخذن مكانا لهن في قلب الشجرة غير مباليات بالمغامرة اللاتي تقمن بها، فيما تنهمك بقية النسوة في التقاط حبات الزيتونة التي تتساقط أرضا. من يرتقي بالزيت إلى بترول أخضرمن يرتقي بالزيت إلى بترول أخضر وفي جانب آخر من الحقل تجد شابين منهمكين في تعبئة ما تم جنيه في أكياس كبرى وتهيئتها قبل نقلها إلى المعاصر حيث يستخرج زيت الزيتون، هم ليسوا من العمال ولكنهم أولاد صاحب الحقل، فأغلب الشباب لا يستهويهم العمل في جني الزيتون في ظل الظروف القاسية. يقول الفلاح لطفي عيسى، “أواجه مشكلا في إيجاد اليد العاملة لجني محصول الزيتون، رغم أن الأجرة اليومية للعامل وصلت إلى 30 دينارا (أكثر من 10 دولارات بقليل)، فأغلب الشباب يرفضون العمل الفلاحي والأعمال اليومية الشاقة ويفضلون البطالة”. ويقول المنصف الماجري، بحسرة “عمل يرفض الكثير من الشباب الإقبال عليه ويفضلون البقاء في المقاهي واحتساء القهوة بدل جني الزيتون”. ويضيف الماجري، وهو مسؤول عن أحد الحقول في محافظة أريانة، “قلة هم من يقبلون العمل معنا.. مهما قدمت له ما يطلب من أجر، فهو في نهاية الأمر يرفض”. وتراجع الإنتاج بأكثر من النصف، ويقدر بحوالي 140 ألف طن مقارنة بالموسم الماضي (325 ألف طن)، ويرجع المسؤولون ذلك إلى الجفاف الذي ضرب الموسم وأثّر في الإنتاج. ويرى الماجري، أنّ “محاصيل هذه السنة ضئيلة جدا مقارنة بالسنة الماضية.. وهو أمر متوقع، فجميع المزارعين تعودوا على أن يكون المحصول متفاوتا بين الموسم السابق والذّي يليه”. ويشير، إلى أنّ “جني الزيتون له روح وأجواء خاصة والعمالة تنتظره لأشهر.. فشجرة الزيتون مباركة وتدر الربح دائما على الجميع رغم قلة المحاصيل”. وقد اختار العديد من مالكي حقول الزيتون الطرق والوسائل التقليدية في عملية جني الزيتون حفاظا على الشجرة المباركة من التلف، حيث يتبركون بها وتمثل مصدر رزق للكثيرين. ويعرف زيت الزيتون التونسي باكتسابه للعديد من الأصناف والأذواق والنكهات حسب أصناف الزيتون ومنطقة الإنتاج ونوعية المناخ، كما يحظى بأهمية بالغة في التقاليد الغذائية والصحية للتونسيين حيث يكاد يحضر في كل بيت تونسي حتى الفقير منها وفي كل طبق غذائي مهما كان نوعه. ويفضل العديد من التونسيين زيت الزيتون على باقي الأدوية لمعالجة بعض الأمراض مثل التهاب الحنجرة ونزلة البرد الحادة. يقول أحمد وهو شيخ تجاوز عتبة التسعين عاما ولا يزال يتمتع بصحة جيدة بفخر عن سر احتفاظه بلياقته قائلا، “أحتفظ بعافيتي لأنه لا يمر يوم دون أن أشرب كأسا من زيت الزيتون في الصباح وزوجتي لا تطبخ أي أكلة إلا باستعمال زيت الزيتون دون سواه”. ويقول كمال وهو مهندس (33 عاما) “قبل أن أستعمل أي دواء عندما أمرض، فإن زيت الزيتون هو أول حل ألجأ إليه، وعادة ما يكون ناجعا ويغني عن باقي الأدوية”. جهد كبير لقاء أجر زهيدجهد كبير لقاء أجر زهيد ويبلغ معدل استهلاك التونسي لزيت الزيتون 8 لترات للفرد الواحد في السنة أي 7.2 كلغ، بحسب المعهد الوطني للاستهلاك. وكدليل على ما يمثله موسم جني الزيتون من إحياء للتقاليد في العائلة التونسية، تقام بعض المهرجانات للاحتفاء بشجرة الزيتون في العديد من المدن والمناطق الفلاحية التي اشتهرت بالزيتون، وتخصص هذه المهرجانات لتذوق زيت الزيتون والمأكولات التقليدية من المطبخ التونسي. وينتظر أن تبلغ صادرات تونس من زيت الزيتون خلال موسم 2018/2019 نحو 170 ألف طن بقيمة تتراوح بين 1.6 و1.8 مليار دينار (نحو 580 مليون يورو). ويرى عبدالمجيد محجوب صاحب معصرة زيت بمدينة طبربة الواقعة على بعد 30 كيلومترا شمال العاصمة، أغلب إنتاجها موجه للتصدير، أن زيت الزيتون هو بمثابة البترول الأخضر لتونس. ويقول، “مثلما تمكنت دول الخليج، أن تصبح اقتصادا محوريا في العالم بفضل نفطها، تونس يمكنها أن تصبح كذلك فقط بفضل زيت الزيتون الذي اعتبره بترولا أخضر”. ويضيف محجوب الذي يدير المعصرة التي أنشأها والده منذ أكثر من قرن من الزمن أن “صادرات معصرتنا تتجه إلى الولايات المتحدة الأميركية والعديد من الأسواق الأوروبية، ومناطق في الشرق الأوسط مثل الكويت وقطر ودبي”. ولتسويق زيت الزيتون في الخارج بأفضل شكل ينتج محجوب نحو 30 منتجا غذائيا مرتبطا بزيت الزيتون مخصصا للتصدير مثل الزيتون المعلب والهريسة ومعجون الثوم. ويعتبر محجوب، أن مثل هذه المنتجات التي تذهب كلها لأسواق أميركية وأوروبية يمكن أن تضفي قيمة أكبر على منتوج زيت الزيتون وتعرّف بخصائص المطبخ التونسي. لكن رغم أهمية مساهمته في الاقتصاد التونسي، فإن تصدير زيت الزيتون التونسي للخارج مازال يعاني بعض التحديات التي تتعلق مثلا بالتعليب وطرق الجني التقليدية التي تقلص الصابة إضافة إلى الصعوبات المالية التي يتعرض لها بعض المصدرين.
مشاركة :