يركز الناقد الدكتور أسامة البحيري في كتابه «الحداثة وما بعد الحداثة في الرواية العربية المعاصرة»، الصادر حديثا عن دار النابغة بالقاهرة، على عدة محاور نقدية في سياق مقاربته لعدد من الروايات العربية من مصر والسعودية واليمن والسودان، أبرزها ما جاء في الفصل الخامس بعنوان «المدينة المنورة فضاءً سردياً تجاور المقدَّس والمدَنّس» وفيه يتتبع تجليات المدينة المنورة في الفضاء الروائي ببعديه الزماني والمكاني في عدد من النصوص السردية الروائية والسير الذاتية التي تحتفي بالمدينة المنورة، وتُفرِد لحضورها الروحي والمادي مساحة كبيرة في القص، وتصور تفاعل المكان مع بقية العناصر الأخرى، لا سيما الشخصيات والأحداث، ومدى تفاعلها في نسيج السرد إيجابا وسلبا. ولفت البحيري إلى أن المفارقة تبرز بين الإرث الروحي الذي يستمد عبقه من قيم العدل والمساواة والتسامح في العهد النبوي، وبين سلبيات بعض الشخصيات المضطربة التي تعيش في ظلال المدينة المنورة وتفارق إرثها الروحي العريق. في الفصل السادس «شعرية التشكيل في الرواية السعودية المعاصرة» يتناول الناقد مستويات التشكيل اللغوي في رواية «البحريات» للروائية السعودية «أميمة الخميس»، ويحلل أثرها في تحقيق الانسجام السردي وبروز الشعرية في تفاصيل النص الروائي ومقاطعه السردية والوصفية والحوارية، وتأثير ذلك كله في تميز رواية «البحريات» ضمن الموجة الأخيرة في الرواية النسائية بالسعودية. ويركز الكتاب أيضا على استكشاف تجليّات «الحداثة» و«ما بعد الحداثة» في الرواية العربية المعاصرة، من خلال تمهيد وستة فصول، ويعرض التمهيد لمفاهيم مصطلحي «الحداثة» و«ما بعد الحداثة» في الفكر الغربي، وانعكاساتهما على المستوى اللغوي، والفلسفي، والفكري، والثقافي، والفني، والأدبي. في الفصل الأول «أثر العولمة وما بعد الحداثة في السرد العربي المعاصر» يرصد البحيري مظاهر تأثير العولمة وما بعد الحداثة في فنون السرد العربي المعاصر بخاصة في الرواية، مثل تأكيد الهوية الوطنية والتشبث بالجذور التاريخية، ردّا على تغول العولمة ومحاولتها فرض النموذج الثقافي الغربي الاستهلاكي، وكذلك يعالج ثنائية المركز والهامش التي هيمنت على الأدب العربي الحديث منذ بداياته الأولى. ويبحث الناقد في الفصل الثاني «تمثيلات ما بعد الكولونيالية في المتخيل السردي العربي» (السود نموذجا)، باعتباره مجالا من مجالات تأثير ما بعد الحداثة في الرواية العربية المعاصرة من خلال احتفاء الروائيين المعاصرين بطائفة «السود» في رواياتهم، بعدما عانت تهميشاً كبيراً، وتعرضتْ لألوان كثيرة من العنصرية والاضطهاد في كثير من الحضارات والبلاد، وتوجهت مرحلة ما بعد الحداثة لإنصافهم من خلال دراسات ما بعد الكولونيالية، وبيان معاناتهم، وفضح مقولات المركزية الأوروبية، وممارسات المستعمرين العنصرية ضدهم، وبيان ذلك من خلال تحليل المساحة السردية الكبيرة التي منحها الروائيون العرب المعاصرون أمثال الروائي السوداني الراحل الطيب صالح وروايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، وإدريس علي في روايته «دنقلة» وسلوى بكر في روايتها «كوكو سودان كباشي»، التي تحتفي بـ«السود» وتمنحهم أدوار البطولة بعد تهميش روائي واجتماعي طويل. ففي هذه الرواية، تتناول بكر جانبا غفلت عنه الكتابات التاريخية والمؤرخون، من خلال تناولها مشاركة فرقة مشتركة من الجنود المصريين والسودانيين، كان يشار لها باسم «أورطة» في غمار الحرب الأهلية المكسيكية في الفترة من 1863 إلى 1867. ويركز الفصل الثالث من الكتاب، المعنون «تحولات البطولة في الرواية التاريخية العربية»، على تفاعل السرد الروائي مع التاريخ في مراحل تطور الرواية العربية، ويرصد مظاهر التحول في نماذج البطولة تبعا للتغيرات الفكرية والسياسية والثقافية في المجتمعات العربية، وتغير نمط البطولة من البطل التاريخي المُلهَم الذي يمثل مصدر فخر واعتزاز للأمة إلى البطل السلبي العاجز عن حل المشكلات نظرا لتعقد الظروف المعاكسة المحيطة به في مرحلة ما بعد الحداثة التي تعيد مساءلة الحقائق المتوارثة والبديهيات المستقرة. وفي الفصل الرابع «تمثيلات مصر الناصرية في الرواية العربية» يناقش البحيري تأثيرات المرحلة الناصرية في مصر على الروائيين العرب الذين احتكوا بالتجربة الناصرية في مصر احتكاكاً مباشرا من خلال دراستهم في الجامعات المصرية في فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين، ووجهات النظر الفكرية والسردية الإيجابية والسلبية في التجربة الناصرية، وتمثيلاتهم السردية لإنجازات هذه المرحلة وإخفاقاتها على المستوى المصري والعربي من خلال تحليل نصوصهم الروائية.
مشاركة :