لا تعيننا رسومه المسرفة في بذخها التعبيري وسعادتها المتعالية على الوصف المتأني الذي يذهب إلى غايات تشريحية. لن تسبقه بلاغتنا إلى الأثر الذي طوقته عيناه بلمعانهما بعد أن قبض على ضالته التصويرية. سنجده هناك قبلنا مفعماً ببهجته التي هي نوع من بشارته. الرسام السوري زياد دلول (السويداء 1953) يشبعنا غنى عاطفياً تفيض به لوحاته حين نراها، من غير أن يفقد ذلك الغنى قوة تماسكه وانشداد أجزائه، بعضها إلى بعض . عاطفته لا تسيل باستسلام مع المعاني بل تبقى صلبة في انتظار معانٍ كامنة جديدة. وهو ما يضعنا مباشرة في مواجهة خبرة تصريف أحوال الطبيعة المرئية من خلال يدين تهبطان على سطح اللوحة بخيالهما الساحر كما لو أنهما تبدآن الخلق من جديد، هما يدا رسام يقدس قوانين الطبيعة من غير أن يلتحق بنتائجها المباشرة. فالعالم الذي ينبعث من رسوم دلول فجأة لا يعيدنا إلى الوراء ولا يذكرنا بما انتهينا إليه من أفكار شعرية، قد تشكل نوعاً من الحنين الذي يقيد الرغبة في التحليق. كل شيء في عالمه يبدو جديداً، تؤثثه السعادة بمواد مستعارة من حياة لم يعشها أحد من قبل. شيء من الترف الأسطوري يخترق بأناقته صوراً حلمية نظيفة، تُسر لها العين فتنغلق عليها خشية أن تفقدها. ما من شيء مفقود ليُرثى بطريقة مبتسرة. هناك وعد بمجيء ما لا نعرفه من جمال وما لم نتعرف عليه من ترف إلا من خلال إنشاءات غامضة حملتها لوحات كبار الرسامين. زياد دلول رسام مشاهد مستعارة من الفردوس، صمتها يهب المفردات المنسية ثياباً مريحة، زخارفها تضحك بخفر، من غير أن تأنس لوداعتها. مشاهده لا تسكن في ما يُرى منها من لقى جمالية، بل تفتح الأبواب على عالم يقع في ما يعد النظر إليه من نفائسها بما يشبه الانتهاك. دلول يأخذنا إلى متاهة بصرية بمعتة مَن يرغب في أن يرينا حدائقه السرية التي لا تزال عاكفة على دنوها من لحظة الخلق. الرسام الذي يعرف كيف يقفز على الوصف من أجل أن يقبض على الإلهام يتنقل بنا بين عصور الرسم العظيمة كما لو أنه نوع من بوتشيلي أو فيلاسكيز أو بوسان. ليست البراعة التقنية حجته الوحيدة وهو ما لا يعول عليه بل هي الرغبة في الثناء على الرسم باعتباره هبة إلهية من أجل الشكر الذي لا يلتفت إلى أحد بعينه. ما من رسام عربي يشكر الطبيعة مثلما يفعل زياد دلول. ثراء مفرداته بغزارة عاطفتها وقوة وصاياها التلذذية يشي بعلاقة محكمة تصل بينه وبين أزمنة الرسم الحقيقي. لذلك سيكون من الخطأ أن نصفه بالرسام المعاصر، إلا إذا كنا نرغب في كتابة سيرته الحياتية. فهو ابن زمن لا وجود له في سجلات التاريخ وهو ابن مكان لا تحسن الجغرافيا الاهتداء إليه. زمن المسرات الذي يعود إليه دلول في معرضه المقام حالياً في قاعة كلود برنار- باريس هو زمن عصي على الاحتواء لما يضمه من معجزات جمالية يفلت من خلالها الرسم من صلته بمكان بعينه. هذا رسام لا يعيدنا إلى ذاكرة الرسم، بل يحيي في أعماقنا فكرة الملاذ الجمالي الآمن الذي يشيده الرسامون في مواجهة جمال الطبيعة. سيكون على الطبيعة أن تشفق على كنوزها وهي ترى أن شيئاً منها قد فلت ليكون مدعاة لحسدها الإيجابي. رسوم دلول تأسر الطبيعة، لتتماهى مع لغزها السعيد بتمرده. ذلك التمرد الذي لا ينكر أصوله الطبيعية حين يجددها. أليس هذا ما فعله كبار الرسامين عبر العصور؟ فهل يعيدنا دلول إلى زمن الرسم الحقيقي في هذا الوقت العصيب والمشوش من تاريخنا الفني؟ أعتقد أن دلول يراهن على شيء من هذا القبيل. في (احتفال الغائبين) وهي واحدة من أهم لوحات معرضه الجديد يجدد دلول البيعة لبول سيزان، بالرغم من أنه يبدو أكثر احتفاء بالحياة من الرسام الفرنسي الذي يعتبر أباً للحداثة الفنية في القرن العشرين، وهو القرن الذي شهد انحطاط الرسم بالرغم من أن بيكاسو وماتيس كانا جزءاً حيوياً منه. فهو القرن الذي شهد ظهور مارسيل دوشان وجوزيف بويس وما تلاهما من حذلقات الفن المعاصر. دلول وهو ابن القرن العشرين لا يبدو متخاذلاً في مواجهة ما انتهى إليه ذلك القرن من حقائق. فهو يعيدنا إلى عالم الرسم الذي يقف إلى جوار عالم الطبيعة، وهما عالمان لا تتحكم بهما معادلة القدم والمعاصرة. سنعثر على الحكاية نفسها في الرسم كما في الطبيعة، غير أن المعجزة تكمن في أن الحكايتين لا تتشابهان. وهو ما اختار زياد دلول أن يكون وفياً له، صفته التي تميزه عن الفنانين الآخرين. ابن زمنه الخاص الذي سيكيل لنا المديح لأنا صبرنا عليه وهو يؤثث أرواحنا بجمال لم نعهده من قبل.
مشاركة :