إن اختيار الإمام محمد عبده (1849- 1905) شخصية الدورة الـ46 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، من 28 كانون الأول (يناير) إلى 12 شباط (فبراير) 2015 هو اختيار صائب، لأنه من أكثر المساهمين في تجديد الفكر الإسلامي. وكان لارتباطه بجمال الدين الأفغاني ورضا رشيد تأثير إيجابي في رؤيته الدينية. ولد الإمام محمد عبده في طنطا في شمال مصر، وتعلم في جامع الأحمدي، ثم الجامع الأزهر، وعمل مدرساً للتاريخ في دار العلوم. لم يدعم الثورة العرابية في بدايتها لأنه كان يكره التصادم لطبيعته الصوفية السلمية، لكن ما لبث أن شارك فيها وتم اعتقاله، لكنه نجح في السفر إلى لبنان، ثم أصدر الخديوي إسماعيل عفواً عنه بعد أن توسط لديه جمال الدين الأفغاني. عمل مفتياً لمصر بعد فصل مشيخة الأزهر عن دار الافتاء، وساهم في تجديد الفكر الإسلامي بأن أخذ من الدعوة الوهابية الابتعاد عن الخرافة، وأعلى من شأن استخدام العقل في استيعاب الدين. وكان لسفره إلى باريس في نهاية القرن التاسع عشر بصحبة جمال الدين الأفغاني تأثير كبير في وعيه وانفتاحه على ثقافة الغرب وفلسفته. كان يرى أن الشعب المصري متدين بطبعه وسهل الانقياد لحاكمه بخاصة إذا كان متديناً، وأن فشل العلمانية ليس سببه أن عقل المصريين يميل إلى الخرافة، ولكن لانقياده لوعي متطرف بعيد من الوسطية، فيقول: «أهل مصر قوم أذكياء يغلب عليهم لين الطباع واشتداد القابلية للتأثير، ولكنهم حفظوا القاعدة الطبيعية، وهي أن البذرة لا تنبت في أرض إلا إذا كان مزاج البذرة مما يتغذى من عناصر الأرض ويتنفس بهوائها، وإلا ماتت البذرة دون عيب في طبقة الأرض وجودتها، ولا في البذرة وصحتها، وإنما العيب على الباذر. أنفس المصريين أشربت الانقياد إلى الدين حتى صار طبعاً فيها، فكل من طلب إصلاحها من غير طريق الدين فقد بذر بذراً غير صالح للتربة التي أودعه فيها، فلا تنبت ويضيع تعبه ويخفق سعيه، وأكبر شاهد على ذلك ما شوهد من أثر التربية التي يسمّونها أدبية من عهد محمد علي إلى اليوم، فإن المأخوذين بها لم يزدادوا إلا فساداً، وإن قيل إن لهم شيئاً من المعلومات، فما لم تكن معارفهم وآدابهم مبنية على أصول دينهم، فلا أثر لها في نفوسهم». وكان محمد عبده يرى أن سبيل الدين لمريد الإصلاح في المسلمين هو سبيل لا مندوحة عنه، فإن إتيانهم من طريق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين يجعله في حاجة إلى إنشاء بناء جديد ليس عنده من مواده شيء، ولا يسهل عليه أن يجد من عماله أحداً. أما عن رؤيته لسبب تخلف الأمة الإسلامية في العصور الحديثة، فيقول: «وأسفاه، لم يبق من الدين إلا هذه الثقة به، أما الدين نفسه فقد انقلب في عقل المسلم وضعه، وتغيّر في مداركه طبعه، وتبدلت في فهمه حقيقته، وانطمست في نظره طريقته، وحقّ فيه قول علي، كرم الله وجهه: إن هؤلاء القوم قد لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوباً». كان الإمام محمد عبده مثالاً للتواضع والتسامح والانفتاح، وأفضل أمثلة على ذلك تقبله للمناظرة مع فرح أنطون عن اضطهاد ابن رشد وسيطرة الفاشية الدينية على الفكر، وأوضح أن مشكلة ابن رشد كانت آنذاك سياسية وليست دينية، وإن إعمال العقل والفكر الناقد واستخدام العلم والفلسفة لا يتنافى مع الفكر الديني الإسلامي، ولكن التطرف جعله يختلط بمزيد من الخرافات. المتحدث الرئيسي عن شخصية عبده في المعرض هو رضوان السيد، وعنوان محاضرته «محمد عبده - التجديد الديني والثقافي - المشروع ومصائره».
مشاركة :