ازدهرت الولايات المتحدة نتيجة لإسهامات جورج بوش رئيسها الحادي والأربعين العديدة، واستفاد كثيرون أيضا في مختلف أنحاء العالَم، ونحن مدينون له جميعا بالشكر، ولا نملك الآن سوى أن نتمنى له راحة أبدية مستحقة. عملت مع أربعة رؤساء أميركيين، ديمقراطيين وجمهوريين على حد سواء، ولعل الشيء الأكثر أهمية الذي تعلمته على طول الطريق هو أن القليل مما نسميه التاريخ حتمي ولا مفر منه، فما يحدث في هذا العالَم يأتي دوما نتيجة لما يختار الناس القيام به أو ما يختارون الامتناع عن إتيانه عندما يجدون أنفسهم في مواجهة تحديات أو فرص. نال جورج بوش الأب، رئيس الولايات المتحدة الحادي والأربعون، أكثر من نصيبه من التحديات والفرص، والسجل واضح: فقد ترك منصبه في وقت كان العالَم أفضل كثيرا مما كان عليه عندما تولى المنصب. عملت لمصلحة بوش الأب ومعه غالبا طوال سنوات رئاسته الأربع، وكنت عضوا في مجلس الأمن القومي والمسؤول عن الإشراف على تطوير وتنفيذ السياسة في التعامل مع الشرق الأوسط، والخليج العربي، وأفغانستان، والهند، وباكستان، وكنت أيضا شريكا في مداولات سياسية جيدة كثيرة أخرى. كان بوش لطيفا، مهذبا، منصفا، متفتح الذهن، متفهما، متسامحا، متواضعا، صاحب مبادئ، مخلصا، وكان يحترم قيمة الخدمة العامة ويرى نفسه ببساطة على أنه آخر حلقة في سلسلة طويلة من رؤساء الولايات المتحدة، ومجرد شاغل مؤقت آخر للمكتب البيضاوي، وراع للديمقراطية الأميركية. كانت إنجازات بوش الأب في السياسة الخارجية عديدة ومهمة، بدءا بإنهاء الحرب الباردة، ولا شك أن الحرب انتهت نتيجة لأربعة عقود من الجهود الغربية المتضافرة في مناطق العالَم كافة، وهزيمة السوفيات في أفغانستان، والعيوب العميقة التي شابت النظام السوفياتي، وكلمات وأفعال ميخائيل غورباتشوف. لكن أيا من هذا لم يكن يعني أن الحرب الباردة من المحتم أن تنتهي بسرعة أو سلميا. انتهت الحرب، جزئيا، لأن بوش كان حساسا في التعامل مع مأزق غورباتشوف ثم بوريس يلتسين من بعده، فتجنب جعل الوضع الصعب مهينا، وكان بوش حريصا على عدم إبداء الارتياح الظافر أو الانغماس في خطابة الانتصار. وكان موضع انتقاد واسع النطاق بسبب حرصه على ضبط النفس، لكنه تمكن من تجنب إشعال شرارة ذلك النوع من ردود الفِعل القومية التي نشهدها الآن في روسيا. كما حصل بوش على مبتغاه، ولا ينبغي لأحد أن يخلط بين حذر بوش ورذيلة الجبن أو التردد، فقد تغلب على تردد (وفي بعض الأحيان اعتراضات) نظرائه الأوروبيين وعمل على تعزيز إعادة توحيد شطري ألمانيا، ومهد السبيل لالتحاقها بعضوية حلف شمال الأطلسي، وكان ذلك فن إدارة الدولة في أرق صوره. كان الإنجاز الكبير الآخر الذي حققه بوش في عالَم السياسة الخارجية هو حرب الخليج، فقد اعتبر إقدام صدّام حسين على غزو واحتلال الكويت تهديدا ليس لإمدادات النفط المهمة القادمة من المنطقة فقط، بل أيضا لعالَم ما بعد الحرب الباردة الناشئ. وكان بوش يخشى أن يشجع هذا العمل العدواني المزيد من الفوضى إذا لم يُرَد عليه. بعد أيام من اندلاع الأزمة، أعلن بوش أن عدوان صدّام حسين لن يستمر، ثم قام بحشد تحالف دولي غير مسبوق لدعم العقوبات والتهديد باستخدام القوة، وأرسل نصف مليون جندي أميركي نصف المسافة حول العالَم للانضمام إلى مئات الآلاف من قوات دول أخرى، وعندما فشلت الجهود الدبلوماسية في فرض الانسحاب العراقي الكامل وغير المشروط، حرر التحالف الكويت في غضون بضعة أسابيع بعدد قليل للغاية من الضحايا من القوات الأميركية وقوات التحالف عموما. كانت حالة تستحق الدراسة الأكاديمية للكيفية التي قد تعمل بها التعددية. يجدر بنا أن نذكر نقطتين أخريين في هذا الصدد: أولا، كان الكونغرس عازفا عن العمل في التصدي لعدوان صدّام. وكاد التصويت في مجلس الشيوخ للتصريح بالقيام بعمل عسكري يفشل، ومع ذلك، كان بوش على استعداد لإصدار الأمر بإطلاق ما عُرِف بعد ذلك بعملية "عاصفة الصحراء" حتى بدون الحصول على موافقة الكونغرس، لأن القانون الدولي ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كانا في صفه بالفعل. كان بوش على هذا القدر من قوة العزم واحترام المبادئ. ثانيا، رفض بوش السماح لنفسه بالتورط في الأحداث. كانت المهمة تحرير الكويت لا العراق. وانطلاقا من إدراك تام لما حدث قبل أربعة عقود من الزمن عندما وسعت الولايات المتحدة والقوات التابعة للأمم المتحدة هدفها الاستراتيجي في كوريا وحاولت توحيد شطري شبه الجزيرة بالقوة، قاوم بوش الضغوط التي فرضت عليه لحمله على توسيع أهداف الحرب. وكان يخشى أن يفقد ثقة قادة العالَم الذين جمعهم حول هذه المهمة، فضلا عن الخسائر في الأرواح التي من المحتمل أن يسفر عنها توسيع أهداف الحرب، وكان راغبا أيضا في الإبقاء على الحكومات العربية في صفه لتحسين آفاق عملية السلام في الشرق الأوسط والتي كان من المقرر أن تبدأ في مدريد بعد أقل من عام، ومرة أخرى كان قويا بالقدر الكافي لمقاومة المزاج السائد آنذاك. لا شيء من هذا يعني أن بوش كان على حق دائما، إذ كانت نهاية حرب الخليج فوضوية، حيث تمكن صدّام من التمسك بالسلطة في العراق من خلال حملة قمع وحشية ضد الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب، وبعد عام واحد، كانت إدارة بوش بطيئة في الاستجابة للعنف في البلقان، وكان بوسعها أن تبذل المزيد من الجهد لمساعدة روسيا في الأيام المبكرة من مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي، ولكن في الإجمال، كان سجل الإدارة في مجال السياسة الخارجية إيجابيا مقارنة بسجل أي رئيس أميركي معاصر، أو أي زعيم عالمي معاصر آخر في هذا الصدد. وأخيرا، جمع بوش ما يمكن اعتباره أفضل فريق في مجال الأمن القومي في الولايات المتحدة على الإطلاق، فكان برينت سكوكروفت بمثابة المعيار الذهبي لمستشاري الأمن القومي، وكان جيمس بيكر وزير الخارجية الأكثر نجاحا منذ هنري كسينجر وفقا لبعض التقديرات، ومعهما كان كولين باول، وديك تشيني، وروبرت غيتس، ولاري إيغلبرغر، ووليام وبستر، وغيرهم من أصحاب المكانة والخبرة. يعيدنا كل هذا إلى جورج بوش الأب، الذي اختار الناس، والذي ضبط النغمة والتوقعات، وكان بارعا في الإنصات لآراء من حوله، وكان يصر على اتباع العملية الرسمية، وكان القائد. إذا كانت السمكة تفسد من رأسها أولا، كما يقول المثل، فإنها تزدهر أيضا إذا صلح رأسها، وقد ازدهرت الولايات المتحدة نتيجة لإسهامات رئيسها الحادي والأربعين العديدة، واستفاد كثيرون أيضا في مختلف أنحاء العالَم، ونحن مدينون له جميعا بالشكر، ولا نملك الآن سوى أن نتمنى له راحة أبدية مستحقة. * ريتشارد ن. هاس * رئيس مجلس العلاقات الخارجية، وأحدث مؤلفاته كتاب "عالَم في فوضى: السياسة الخارجية الأميركية وأزمة النظام القديم". «بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»
مشاركة :