الرباط: محمد إسماعيل زاهر عندما يتحدث المثقفون عن إدمان وسائل التواصل، التقليدي منها والفائق الحداثة، فإنهم يشيرون صراحة أو عبر الدلالة والإشارة إلى الشباب، بوصفهم الفئة الأكثر استخداماً وترويجاً لتلك الوسائل، ولكن على العكس من تلك النظرة النمطية هناك رؤى شبابية جديدة تدرك المخاطر الناتجة عن الشغف المفرط بتلك الوسائل، بل وتدعو إلى الثورة عليها. في معظم عروض الدورة الرابعة من المهرجان الدولي للمعاهد المسرحية المقام الآن في العاصمة المغربية الرباط، هناك نقد ما يوجهه شباب المسرح إلى وسائل التواصل، ولعل أبرز العروض التي طرحت بقوة الآثار المدمرة لتلك الوسائل على العلاقات بين البشر هو العرض الألماني «close up».«أنا لا أريد الحب، يكفيني البقاء في المنزل، ومشاهدة ذلك الشعور في التلفزيون»، تلخص الجملة السابقة حال بطل العرض الذي يفشل في إقامة أي علاقة حقيقية مع الآخرين، فالعلاقات على الأرض مصنوعة ومزيفة، وسريعة، وتخلو من الحميمية، ذلك ما فعلته فينا الصورة، فنحن نشاهد الآخرين في الأفلام، ننصت إلى حواراتهم، ونشاهد تصرفاتهم، ونتأثر بتجاربهم، وكلما شاهدنا أكثر ابتعدنا أكثر عن العالم المحيط بنا، وأصبحنا جزءاً من «الشو» الإعلامي أو التلفزيوني أو السينمائي، فلا شيء أصيل صنعناه بأنفسنا، شيء يخصنا نحن فقط، ولذلك لا تلبث علاقتنا أن تفشل، لنعاني الوحدة.بطل العرض شاهد 3 آلاف فيلم لكبار المخرجين في العالم ومع ذلك تخلو حياته من قصة خاصة به، يقول: «أنا لست حقيقيا، أنا مجرد مشاهد»، هنا ينحو المسرح إلى لعبة الوجه والقناع، حيث تفرض حالة بطلنا سؤالا شديد التعقيد يتعلق بقدرتنا على الفرز بين الحقيقة والوهم، فعندما أتحدث مثل أحد أبطال الأفلام وأتمنى أن تكون حبيبتي تشبه هذه الممثلة أو تلك، وأنخرط في موقف ما فأستحضر ما فعله أحد الممثلين في موقف مشابه فأنا في العمق زائف، والفيلم هو الحقيقي.ينتقل العرض بعد ذلك إلى القنوات الإخبارية، فما يحدث في العالم ندركه عبر تلك القنوات، ولا مجال للأسئلة، بل هي إجابات مفروضة علينا، ومهما كنا على درجة عالية من التعليم، أو نظن أننا من النخبة فإن تلك القنوات تمتلك من الآليات ما يجعلها توجه عقولنا نحو الاقتناع بما تريد، الأهم من ذلك وهو ما يؤكد ذلك الوعي الذي يميز القائمين على هذا العرض، يتمثل في أن الخبر وما حدث بالفعل هو ما تعرضه علينا تلك القنوات، وما عدا ذلك لم يحدث، أو لا وجود له.أما مواقع التواصل فلم تترك لنا أي وقت للتأمل، للانفراد بأنفسنا، للحب، نحن نعيش حالة من الكلام على مدار الساعة، كلام لا نستطيع استبطان حالة صاحبه، لا نعرف هل هو صادق أم كاذب، أمين أم مخادع؟ ولذلك تصرخ مجموعة شباب العرض قائلة: «سنلغي حساباتنا في الفيسبوك».«نحن نعيش في عالم من الغرباء»، ذلك ما يهتف به الشباب، والمأساة هنا نابعة من أننا نحيا في عصر تلك الوسائل التي بشرت بالتقريب بين البشر، والنداء يأتي من جيل اتهم دائما بشغفه بكل ما يمت بصلة إلى وسائل التواصل الحديثة. أكاذيب الحياة سلسلة متواصلة من الأكاذيب، ذلك ما سعى العرض البولندي «حمى» إلى تأكيده، من خلال طرح فلسفي يميل إلى التعقيد.العرض منهك فكرياً، ومحمل بأطروحات تحتاج إلى التأمل حول الخير والشر، وأساليب التربية، والعلاقة بين الرجل والمرأة، وتراجع أهمية القيم في حياتنا، وممارستنا جميعا الكذب على أقرب من نحب، حتى من دون أن نعي ذلك، ولم تفلح الموسيقى اللافتة والغناء الرائع في إخراج المشاهد من محاولة تأويل قصة العرض الأساسية، التي تدور حول حكاية حب بين مراهقين، ولم يخلُ العرض من إشارات سريعة إلى دور وسائل التواصل في إشاعة الكذب وترويجه كممارسة اجتماعية عامة. الحرية وهم الحرية وهم، حول هذه الفكرة دارت أحداث العرض الإسباني «إليسيا تحت الأرض»، الذي حاول طرح مفهوم الحرية بأبعاده المتعددة، فهناك المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهناك مستوى يتعلق بقدرتنا على التحرر من مخاوفنا وكوابيسنا، واعتمد العرض بالدرجة الأولى على أدوات سينوغرافية لإيصال فكرته إلى الجمهور، فمن خلال الإضاءة واللعب على الظل والنور حاول القائمون على العرض تصوير الجوانب المعتمة من النفس الإنسانية، عندما يتسلل الخوف إلى داخلنا ويؤثر بالسلب في أرواحنا، ومن خلال الديكور رمز العرض إلى العلاقات السلطوية بين البشر عبر مجسم لدرج ضخم، يتبادل فيه الممثلون لعبة الديكتاتور والشعب، ومن خلال صافرات الإنذار ومطاردة البعض البطلة بالسلاح..الخ، تختفي الحرية من حياتنا ولا يبقى أمامنا إلا العيش تحت الأرض.تطرح عروض المهرجان أسئلة عديدة، تتعلق أولاً بالشباب، فالأفكار التي ناقشوها تبشر بالخير، فالأجيال الجديدة تدرك أزماتها، وتمتلك القدرة على نقاش هذه الأزمات من خلال وعي منفتح ومسلح بتكوين معرفي على أعلى المستويات. ثانياً تبدو أزمات الشباب متشابهة برغم اختلاف الثقافات، واللافت هو إدراك هؤلاء الطلبة للكثير من الأكاذيب التي تملأ العالم، وسعيهم إلى كشفها، وحلمهم بالحصول على أكبر قدر من الاستقلالية. الملاحظ كذلك في عروض المهرجان تلك الطروحات الفكرية والرغبة في إثارة الذهن ودفعنا إلى التأمل وربما التأويل، وتلك من وظائف المسرح الأجمل والأبقى.
مشاركة :