في القانون ثغرات لا تقدر عليها إلا أخلاقيات الصحافة

  • 12/8/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تنظيم الصحافة أمر مشترك بين القانون وأخلاقيات المهنة، لكن التنظيم الذاتي أكثر جدوى فهو إنصاف للمواطنين المعنيين أولا وأخيرا بالصحافة، كما يضمن إنصافا للمؤسسات بتجنيبها المحاكم وأيضا هو إنصاف للصحافي. “سيداتي سادتي نقطع برنامجنا الموسيقي لنبث خبرا عاجلا… انفجارات هيدروجينية على المريخ متجهة الآن نحو الأرض بسرعة فائقة…إنهم سكان المريخ…لقد أبادوا الجيش الأميركي”. على امتداد نحو خمس وأربعين دقيقة نقلت إذاعة الـ”سي بي آس”، مساء 30 أكتوبر 1938، بمهنية فائقة حربا أشبه بالحقيقة. في نهاية التغطية، وبعد انقطاع البث من مسرح العمليات معلنا عن فوز أهل المريخ الساحق، نسمع صوت أُرسون ويلز قائلا بالحرف “كنتم تنصتون إلى الـ’سي بي آس” في برنامج من إنتاج أرسون ويلز في اقتباس لمسرحية ‘حرب العوالم"”. مسرحية مشابهة عاشها البلجيكيون مساء 13 ديسمبر 2006 عندما استهل مقدم الأخبار التلفزيونية النشرة قائلا “الوداع بلجيكا” معلنا عن انفصال مقاطعة فلاندر وهروب الملك إلى الكونغو. هلع أصاب البلجيكيين كما أصاب الأميركيين قبلهم بنحو سبعين عاما. وإن داهمت الحرب الكونية الثانية الجميع وشغلتهم عن مسرحية أرسون ويلز التي صورت لهم الخيال واقعا فإن مسرحية التلفزيون البلجيكي أفضت بعد عامين من النقاش إلى إرساء “مجلس أخلاقيات الصحافة” هيئة تسهر على التزام الصحافيين بأخلاقيات المهنة. ولم يكن قرار البلجيكيين سابقة، فهناك مجالس سبقتها، إنّما كان دافعا جديدا لتحكيم أخلاقيات المهنة في التجاوزات الصحافية. ويبيّن هذان المثالان أمرين أولهما أنّ إيهام الناس بما هو غير واقع أمر يسير وآخرهما أن القانون قد يعجز أحيانا عن التصدي لتلك الممارسات المرفوضة. فلم يحاسب لا الصحافي البلجيكي ولا أرسون ويلز إذ لا أحد قاضاهما بتهمة ترويج أخبار كاذبة ولا بدوس أعراف الصحافة. ففي القانون ثغرات لا تقدر عليها إلاّ أخلاقيات المهنة. وفي تونس التي تعيش اليوم فترة انتقال دقيقة هناك تجاوزات كثيرة تفوق المثالين المذكورين وقعا في الإساءة إلى الانتقال الديمقراطي. حكايتا المريخ وبلجيكا دامتا أقل من ساعة. أما التجاوزات عندنا فمقيمة. وقد لا تكون اختلاق وقائع بالضرورة، وهي كثيرة في المواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت، بل هو نقل غير دقيق في الميديا التقليدية أو هو مجزوء أو موجه بما يحمله من آراء خفية ومعلنة أو بغرض دعائي. وقد لا يكون نقلا بل آراء الصحافي إلى الأحكام المطلقة أقرب وقد تكون أقوال بعض الضيوف الذين يقدمون في البلاتوه معلومات مغلوطة دون أن يقدر المحاور على تصويبها أو آراء لا يناقشها بمقابلتها بأخرى. ويذكر رواد الشبكات، منهم صحافيون، أسماء صحافيين آخرين يقولون إنهم يعملون لحساب السلطة أو بعض أجنحتها أو بعض الأحزاب. لا أحد يمكنه تقدير الحياد غير الصحافيين أنفسهم الذين يسائل بعضهم البعض في ضوء مدونة أخلاقية تجمعهملا أحد يمكنه تقدير الحياد غير الصحافيين أنفسهم الذين يسائل بعضهم البعض في ضوء مدونة أخلاقية تجمعهم وقرر حزب نداء تونس قبل أسبوعين مقاطعة أربع وسائل إعلام كبرى بـسبب “التجاوزات التي تعرض لها في عدد من وسائل الإعلام، وعمليات إقصائه بتعليمات فوقية”. فهل يقدر القضاء على محاسبة تلك الوسائل أو أولئك الصحافيين الذين يتهمهم الناس والأحزاب بالانحياز؟ قطعا لا. يُخضع القانون لأحكامه ما هو قابل للملاحظة والقياس وهو مجال طرفاه نقيضان هما الإجبار على الفعل والإجبار على الترك مثل قولنا لا تقتل أو ادفع الجباية. فهل يمكن بناء على ذلك أن يقول المشرع للصحافي كن محايدا ثم يثبت أنه امتثل؟ لا أحد يمكنه تقدير الحياد غير الصحافيين أنفسهم الذين يسائل بعضهم البعض عبر ما يُعرف بمجلس الصحافة في ضوء مدونة أخلاقية تجمعهم. لقد أنشئ في أبريل 2017 مجلس الصحافة التونسي بهيئة مؤقتة غير أنه لم ينطلق في نشاطه بعد وإن كان يعمل الآن على صياغة المدونة. ولم يعد وضع الإعلام التونسي يتحمل أكثر على بعد عام من الانتخابات الرئاسية والتشريعية. والمهمة عسيرة لأنه لم يتضح بعد إن كان المجلس سيُعنى بالصحافة عامّة أم بالمكتوب والإلكتروني منها فقط وإن كانت أخلاقيات الصحافة واحـدة أيا كانت الوسـيلة. في أوروبا واحد وعشرون مجلس صحافة سبعة عشر منها اختارت أن تكون قيمة على الصحافة بأنماطها الأربعة. والمزعج في وضع الإعلام التونسي أن الصحافة السمعية البصرية هي المتهمة أساسا بإفساد الأجواء لذلك سيكون من غير المجدي الفصل بين المكتوب والسمعي المرئي. وليس في ذلك أي تقليل من شأن الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا اختزالا) التي هي هيئة دستورية مهمتها التعديل أي السهر على تطبيق القانون في مجال الإعلام والاتصال. فالتعديل مسألة قانون في حين أن التعديل الذاتي الموكول إلى مجالس الصحافة مسألة أخلاقيات. وتنظيم الصحافة أمر مشترك بين القانون وأخلاقيات المهنة. والدليل على ذلك التكامل أنْ طلب مجلس الصحافة الأيرلندي من البرلمان في 2007 إخراج قضايا الثلب والتشهير من دائرة القانون وتركها لدائرة الأخلاقيات فاستجاب البرلمان عام 2009. والحكمة في ذلك أن الناس قد يحجمون عن اللجوء إلى القضاء لعوامل الوقت والمال والتنقل فينصفهم المجلس بمساءلة الصحافي إن ثبت ذنبه ثم بنشر ذلك في الوسيلة المذنبة. ففي التنظيم الذاتي إنصاف للمواطنين المعنيين أولا وأخيرا بالصحافة وفيه إنصاف للمؤسسات بتجنيبها المحاكم وإنصاف للصحافي. ينص القانون التونسي على أنه “لا تجوز مساءلة أي صحافي على رأي أو أفكار أو معلومات ينشرها طبقا لأخلاقيات المهنة” (المرسوم 115 البند 13). من يقرر إن كان عمل الصحافي عملا جاء تحت سقف الأخلاقيات غير المهنة ممثلة في مجلس الصحافة بمدونة موحدة؟ لو كان في بلجيكا مجلس لأخلاقيات الصحافة قبل 2006 لقرأ الصحافي البلجيكي ومن معه ألف حساب قبل التجرؤ على الناس بمسرحية انفصال حبست أنفاس شعب ثلاثين دقيقة.

مشاركة :