كنت في زيارة لعزيز مريض في المستشفى التخصصي بالرياض قبل يومين، وقبل خروجي دعوت له بالشفاء والبرء مما ألم، وذكرته بما مضى حين كان في كامل قوته وصحته وأن الله سيعيدها له بمشيئته تعالى بعد أن يستكمل العلاج اللازم، قلت ذلك له مؤمنًا بقدرة الله على أن يغير الحالة التي وصلت إلى اليأس من الشفاء إلى الصحة التامة وكأن شيئًا لم يكن. امتلأت روحي اطمئنانا عليه حينما رأيت قوة إيمانه بالله واتكاله عليه مع الأخذ بالأسباب، وزادت لدي نسبة خروجه من مأزقه الصحي الصعب بعد أن ازددت فخرًا بحالة التفاؤل الكبيرة التي غمرتني معه، بما أطلق في الغرفة الصغيرة التي ضمتني وإياه من الضحكات العميقة الصادقة وكأننا نعيش ضحكات ما قبل عشرين عاما حين كانت تضمنا مجالس الألفة والمحبة والاسترواح فيستلقي أحد الحاضرين على قفاه من التعليقات والنكات التي تتطاير في أجواء المجلس. مرت تلك السنين العامرة بالأنس والتلاقي والتواصل والمفعمة بحب الحياة المكنوزة بتدفق النشاط والشعور بزهو النجاح والتفوق في الأعمال، مرت ولكنها أمام هذا الزميل العزيز المملوء بتلك المشاعر كأنها لم تمض؛ بل يعيش أحاسيسها في قسمات وجهه وفي ابتسامته التي لا تفارقه وفي بريق عينيه اللامعتين مع كل دمعة تغرقهما بعد إطلاق أقوى نكتة أو تعليق. خرجت منه بعد تلويحة وداع حار وقهقهة مجلجلة عند باب الغرفة، وعند المصعد لاقيت شابًا يستعد للنزول إلى الدور الأرضي وهو يرتدي لباس المرضى المنومين ويجلس على عربة موصول بها مغذ، فسلمت عليه ودعوت له بالشفاء قبل أن أعرف مرضه، وجدته حامدًا شاكرًا، قلت له: مما تشكو شفاك الله وعافاك؟ قال: من الفشل الكلوي، ولدي اليوم غسيل ومتابعة مع الاستشاري الذي طلب تنويمي أياما. سبحان الله، كيف تجلت قوى الدفاع الكامنة لدى صديقي الذي خرجت منه للتو وهو بكامل عافيته النفسية، ولدى هذا الشاب الذي يغسل مرتين في الأسبوع تأخذ منه كل مرة ثلاث أو أربع ساعات جالسا على كرسي الغسيل، ومتفائل بقوة بأن الفرج قريب بزراعة كلية في موعد منتظر غير بعيد. تواترت على خاطري صور عدة لأناس لا يشكون من علة، ولديهم مصدر دخل جيد، ويسكنون في منازل مرفهة، ويسافرون، يروحون ويجيئون، ولديهم أولاد وبيوت عامرة؛ لكنهم تعساء! كنت أتمنى في تلك اللحظة التي خرجت فيها أن أمسك بيد أحدهم وأدخله إلى المستشفى ليتعلم ممن التقيت بهم معنى القوة وفلسفة السعادة وكيف يبتهج بما وهبه الله له. كيف لا يسعد من لا يشكو علة؟ كيف لا يسعد من يمشي على قدميه ويرى ويسمع ويتكلم ويعقل ويفكر ويدير أمور حياته؟! ألا يرى الشقي الذي يملك أسباب السعادة ولا يفهمها العليلَ والمشردَ والفقيرَ والوحيدَ والعاجزَ؟! كثير من الجمال والبهجة فينا ومن حولنا ولا نحتفل به؛ لأنه موجود؛ لكن سنتذكره حتما حين نفتقده.
مشاركة :