فلسفة النّجاح بمعاييرها الأسرية والاجتماعية

  • 12/9/2018
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

ما أروع أن تعمّ الفرحة القلوب عند الشعور بالانتصار بعد بذل مجهودات مضنية تخطيطا وتنفيذا، إنه ولا شك إحساس متفرّد يحدث عند حصول نجاح باهر. جل الأسر والعائلات على اختلاف أوضاعها الاجتماعية والمادية والمعرفية تكرّس كل طاقاتها الفردية والجماعية، النفسية والمالية، لمساعدة أفرادها وخاصة الأطفال في شقّ طرقهم في الحياة بروية وتوفير أكبر حظوظ للنجاح، وهي دون مواربة مسيرة شديدة الصعوبة ومحفوفة بمخاطر جمّة، ما قد يسلط ضغوطا نفسية رهيبة وتضحيات مادية جسيمة. تلتقي النسوة في محال التجارة وفي صالونات التجميل وفي غيرها من الفضاءات الخاصة والعامة وفي حفلات الزواج والمهرجانات وحتى في المآتم، وخلال حديثهن لا بدّ من استعراض التضحيات والإنجازات وأيضا الإخفاقات التي رافقتهن في مسيرة تربيتهن لأطفالهن وسهرهن على إنجاح أدوارهن. وتختلف آراؤهن في الموضوع، فمنهن من يرين أن النجاح فطري ينمو مع الطفل وما على الأسرة إلا تأطيره بالمرافقة الإيجابية والتوجيه الحسن، فتقول إحداهن بتعال ونخوة “نجح ابني في الدراسة بامتياز، الشيء من عند ربي، الله يحجب عليه ما تعبنيش (لم يتعبني)”. فتجيبها الأخرى “نعم نجاح أبنائي في حياتهم متوارث أبا عن جدّ”. أما الأخريات فيحاولن أن يثبتن بأنهن رائدات في نجاح منظوريهن في الحياة وهو ثمرة عمل دؤوب وتضحية عظيمة، فنجاح الفرد موكول إلى كل أفراد العائلة حيث يشتركون في تهيئة الظروف الملائمة لذلك، فالنجاح بهذا المعنى ثمرة مجهود جماعي ينطلق من الأسرة، التي هي المحرار الحقيقي لتغذية العقول بقيمة النجاح والتفوق. ومن القيم التي يقع تأسيسها وترسيخها داخل الفضاءات الأسرية أولا هي؛ أن يكون الأب أو الأم أو أحد أفراد العائلة يمثّل نموذجا إيجابيا يحتذى، وعلى سبيل الذكر لا الحصر تكون التوجهات العامة لأسرة ما أدبية أو علمية أو تقنية، فينسج الصغار على منوال الكبار ويقتفون خطاهم -بنسب طبعا فالأمر لا يخضع لقياس علمي دقيق- فنجد مجموعة من المحامين أو الأطباء أو الأساتذة من بين أفراد الأسرة الموسعة. أما القيمة الثانية فهي الحرص على تجذير التنافس الشريف والمثمر، دون إيغال ومبالغة لكي لا ينقلب الأمر إلى أنانية وحبّ للذات وربما إلى انتهازية، ويستطيع الأطفال تعلم ذلك بطرق مختلفة بين الإخوة والمقربين كأبناء العمّ أو الخال في العائلة، أو بين التلاميذ في الفضاءات المدرسية المختلفة، أو في الفضاءات الرياضية. وأخيرا تأصيل فكرة أن النجاح لا يتحقق إلا ببذل قصارى الجهود والتضحية مع الاستمرارية في الفعل دون كلل أو ملل. في بعض الأحيان نطالب التلميذ والرياضي والعامل والمهندس والطبيب وغيرهم.. بضرورة تحقيق النجاح في ما يفعلون، فنحدّد -على مستوى العائلة والمجتمع ككل- لهم سقفا من الانتظارات قد لا يستطيعون تحقيقه لعوامل موضوعية. كيف نطلب من تلميذ متوسّط الإمكانيات لأن مداركه وقدراته محدودة أن يتميّز في امتحان الباكالوريا مثلا ليحقق طموح والديه وهو موضوعيا غير قادر على ذلك. تترشح المنتخبات إلى نهائيات كأس العالم، ورغم تفاوت المستويات والقدرات الفنية والمالية فإن الجماهير التي تسندها تدفعها وترنو لأن تتمكن هذه المنتخبات من مقارعة الكبار في لعبة كرة القدم، دون تقييمات موضوعية للاختلاف وأسبابه. من خلال المثالين السابقين يتّضح أن النجاح نسبي، ولذلك لا بدّ من تحديد الأسقف الموضوعية لمدى ما يمكن الوصول إليه وتحقيقه، وذلك بدراسة الإمكانيات المتوفرة، الذاتية والجماعية، دراسة موضوعية باعتماد المقارنة أحيانا، ثم رسم أهداف لا خيالية بل قابلة للتحقيق على أرض الواقع، فالمطلوب -منطقيا- من تلميذ متوسط القدرات النجاح وليس التميز، فهو إن اجتهد نجح بمعدل متوسط وهو بذلك غير قادر على التميّز. بهذا أيضا يتّضح أن القدرة على نحت ملحمة النجاح إلى حدّ اكتمالها تخضع لعدة عوامل، منها ما هو ذاتي تتآلف فيه القدرة مع الرغبة، وفيها ما هو موضوعي لا يتوفر إلا بوجود الظروف الموضوعية لذلك معنويا وماديا. وعليه من الجيّد جدّا أن ننمي في منظورينا حب التفوق ونرسم لهم سبله المتشعبة ولكن مع ذلك لا نفرض عليهم توجهاتنا ورغباتنا وكأننا نريدهم أن ينجزوا ما عجزنا نحن عن فعله؛ فمن كان يحلم بالطب يريد ابنه طبيبا وهكذا دواليك. كما أن النجاح ليس في المسارات التعليمية فقط، فتعلم تقنيات التجارة أيضا نجاح والإبداع الحرفي نجاح. النظرة الاجتماعية المترسّخة لدى كل الناس هي أن الفشل نقيض النجاح ولا تقاطع بينهما، ولكن التجارب الشخصية والجماعية تؤكّد أن الفشل هو جزء من النجاح وذلك باستثماره لتحسين القدرات وتجديد الطاقة لإعادة البناء والانطلاق مجددا في مسيرة أخرى نحو النجاح. ولو لم يكن الأمر كذلك لما قضّى “سيزيف الأسطورة” كامل حياته يدفع صخرته نحو قمة الجبل وكلما قربت من الاستقرار في القمة انحدرت إلى السفح، فيعاود سيزيف المحاولة إلى ما لا نهاية له. هكذا علمتنا الفلسفة اليونانية.

مشاركة :