طبيعةُ الحياة البشرية أن يمضي التاريخ فيها إلى الأمام. ينطبق هذا على واقع الأفراد، كما ينطبق على المجتمعات والدول. لكن حجم وزخم وسرعة وطبيعة التغيير الذي شَهدتهُ المملكة في غضون أسبوعٍ واحد، توحي جميعاً بأن ثمة محاولةً جدية للسباق مع الزمن على طريق صناعة دولة المستقبل في السعودية. وفي أقل الأحوال، على غرس بذار راسخة لعمليةٍ يعرف المختصون أنها طويلةٌ ومعقدة. في محاولة تحليل الظاهرة، هناك عنصران أساسيان يكمنان وراء هذه الممارسة التي تتميز بالحزم والحسم والشمول، والتي تتميز بها حزمة القرارات الواسعة التي أصدرها الملك سلمان بن عبد العزيز، قبل مضي أقل من أسبوع على وجوده في قمة هرم السلطة. فمن ناحية، تأتي الخبرة الطويلة التي امتدت عقوداً في إدارة الشؤون العامة في مختلف المجالات، وتميزت تحديداً بعلاقات مباشرة مع إنسان المملكة، أدت بدورها لإدراك التوازنات الاجتماعية والثقافية للمجتمع، ولمداخل الحفاظ عليها وتطويرها وتوسيعها كلما سنحت الفرصة لامتلاك أدوات وصلاحيات تلك العملية. ومن ناحية ثانية، يأتي الإدراك العميق من قبل الملك لحجم التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية الإقليمية والعالمية التي تتواجد السعودية في القلب منها على مختلف المستويات. فالوضع الإقليمي والدولي المتأزم يتطلب حضوراً فاعلاً ومتميزاً للمملكة بشكلٍ مدروسٍ إلى أعلى درجةٍ ممكنة. وهذا الحضور مطلوبٌ لأن له ارتدادات خارجية وداخلية على حدٍ سواء. بكلامٍ آخر، يخلق موقع السعودية الجيوسياسي اليوم مفارقةً فريدة، لأن المتغيرات المتسارعة، خاصةً في السنوات الأخيرة، فرضت تداخلاً كبيراً ومُعقداً بين تطورات الأوضاع داخل المملكة والتطورات الإقليمية والدولية. فكل تطورٍ إيجابي في الداخل يعزز دور المملكة ويعطيها أوراقاً إضافية في حمأة الحراك السياسي الدولي الراهن، بمستتبعاته الأمنية والاقتصادية. وكل تطورٍ إيجابي مدروس في حضور السياسة السعودية الخارجية، ينعكس على الداخل بشكلٍ جذريٍ وحقيقي، أمناً واستقراراً وتنميةً وحفظاً لكل مقومات الانتماء والسلم الاجتماعي والاقتصادي. من المؤكد أن الاستمرار في بناء الإنسان هو مفتاح الحل، ومدخل ذلك يكمن في التركيز على الشأن الداخلي، كما هو واضحٌ في القرارات المذكورة التي تعمل على مواجهة تحدٍ كبير في البلاد. وما أدراك ماهذا التحدي. إنه تحدّي القدرة على تخطيط في غاية الخصوصية للمملكة. تخطيطٍ يستطيع أن يستقرئ حجم وأبعاد وطبيعة التغييرات الهائلة التي تجري وستجري فيها، وحجم النقلات (الطفرية) التي تشهدُها وستشهدها، والتي عادةً ماتُصيب المخططين بالدوار. تخطيطٍ يدرك أن هذه التغييرات هي نتيجةً طبيعية لتفاعل بلد (استثنائي) مع متغيرات عالمية (استثنائية). المعادلة حساسةٌ ومعقّدة وكبيرة حقاً. ويمكن كتابة صفحات وصفحات حول دلالات الجمل القليلة السابقة. حسبُنا أن نؤكد أنه إذا كان هناك من لا يُحسد في السعودية اليوم فهم القائمون على التخطيط، لأن مسؤوليتهم أكبر من كل حديث. والحقيقة أن ماجرى يحمل دلالات على وجود عنصرٍ آخر، في غاية الخصوصية، يساعدنا على فهم الظاهرة من جانب، وعلى مزيدٍ من التفاؤل من جانبٍ آخر. إذ يبدو الآن أن الملك سلمان، والأرجح بقيادته لجهازٍ استشاري متميز، لم يكن فقط يرصد الواقع بشكلٍ استراتيجي شامل للواقع ومتغيراته، بل وكان يبلور رؤيةً متقدمةً أيضاً، تبني على إيجابيات الماضي، وتُصحح عثراته وسلبياته، فيما يتعلق بالقوانين والهياكل الإدارية للدولة. وحين يتم إلغاء اثني عشر جهازاً من أجهزة الدولة دفعةً واحدة بناءً على تلك الرؤية، فإن هذا لا يدل فقط على وجودها، ولم يحصل طبعاً لأسباب اعتباطية، وإنما لأن ثمة إرادةً قوية لمواجهة تحدي التخطيط المذكور، مع إدراكٍ لضرورة أن يقترن ذلك بحزم رجل الدولة الحقيقي، الذي لا تتضارب عنده مقتضيات احترام الجهود السابقة مع متطلبات تحقيق المصلحة العامة للشعوب والأوطان. لكن الرؤية المذكورة لاتقف عند ذلك العنصر على أهميته الاستراتيجية في تحقيق أهداف عديدة منها إلغاء الازدواجية في الاختصاصات، بما يخفف من التضارب والاختناقات، فضلاً عن (ترشيق) الجهاز الإداري، بما يخفف البيروقراطية الحكومية ويساعد على خدمة المواطن بشكلٍ أكثر سرعةً وفعالية. إذ تنتقل تلك الرؤية فوراً لتأكيد وجود وتوافر (الخير).. خاصةً في ظل التحليلات الإقليمية والعالمية عن مستتبعات انخفاض أسعار النفط. ويأتي مصداقُ هذا على مسارين. مسارٍ مباشر وعاجل بوسائله وقنواته المعروفة، ومسارٍ مُستدام يركز على أساسيات هامة تتعلق بقضايا ملحة تهم المواطن كالماء والكهرباء. وفي لمحةٍ معبرة، لاتغفل الرؤية عن أهمية العنصر الثقافي في مجمل عملية بناء الإنسان فتأخذها بالاعتبار من خلال دعم النوادي الأدبية التي يمكن، ويجب، الآن أن ترتقي لأداء دورها المطلوب. التركيز واضحٌ ومطلوبٌ إذاً على أولوية الداخل في عملية صناعة مستقبلٍ جديد. لكن قدرَ المملكة، مرةً أخرى، ألا تتكامل عناصر العملية المذكورة في معزلٍ عن حضورٍ خارجيٍ إقليمي وعالمي متجدد يحمل نفس الروح التي أظهرتها قرارات الأيام الماضية ومعانيها: ثمة قيادةٌ تُدرك جذور المشكلات وتتعامل معها بعيداً عن الظواهر الخارجية والحلول المستعجلة الانفعالية. تأخذ الظواهر الآنية بعين الاعتبار، لكنها لاتسمح لها باختزال الصورة والتأثير على حساباتها الاستراتيجية. قيادة تعرفُ مقامها ومنزلتها وإمكاناتها ودورها، فتفرض الاحترام على الجميع، بمزيجٍ من الحزم والحكمة والإقناع، ليتوحد الصف على مايحقق مصلحة الجميع، ليس اليوم وغداً فقط، وإنما امتداداً إلى المستقبل البعيد. waelmerza@hotmail.com
مشاركة :