بات علماء الأحياء مقتنعين أن الحياة لا تقتصر على الأرض بقاراتها وبحارها، ولكن الكائنات الحية الدقيقة تعيش أيضا في الغيوم على ارتفاع 30 كم. ولا نتحدث هنا عن الطيور أو الحشرات التي تحوم في الهواء، ولكن عن كائنات دقيقة غير مرئية للعين المجردة أو كما يسمونها بالميكروبات السماوية النشطة التي تعيش وتصرف نفاياتها وتتكاثر في الغيوم. وهذا العالم البيولوجي الثالث اكتشف منذ حوالي خمسة عشر عاما فقط. وفي ضوء أحدث النتائج المتراكمة، تقول جيسيكا جرين، من جامعة أوريجون بالولايات المتحدة: يعتبر الغلاف الجوي موطنا للحياة الميكروبية، وهذا بحد ذاته تغيير حقيقي في المنظور، لأنه حتى الآن كنا ننظر إلى الهواء كوسط معدني معقم فقط. وعندما اكتشف العالم باستير الميكروبات، افترض أنها تمر عبر الهواء لنقل الأمراض من فرد إلى آخر. وحتى السنوات الأخيرة، كانت دراسة تكوين الهواء مقتصرة على الكيميائيين والفيزيائيين وحتى علماء الرياضيات الذين قاموا بتصميم نموذج لسلوك الغلاف الجوي على حد وصف آن ماري دولور، من معهد كليرمون فيران للكيمياء. وفي الثلاثينات من القرن العشرين، أصدر علماء الأحياء المجهرية تعليمات إلى رواد الطيران في ذلك الوقت بإحضار عينات من الهواء في الأعالي، وذلك كما فعل تشارلز وآن ليند بيرغ، أثناء رحلتهما فوق القطب الشمالي، أو أميليا إيرهارت خلال محاولتها المميتة في رحلة حول العالم. ولكن الأمر بالنسبة للملاحين مثله مثل الميكروبات، فالهواء كان يُنظر إليه على أنه وسيلة عبور فقط. ولكن في أوائل عام 2000، بدأ عدد من الفرق العلمية بإلقاء نظرة فاحصة على الهواء وبدأت المفاجآت. في ذلك الوقت، تعهد Ruprecht Jaenicke، فيزيائي الغلاف الجوي في جامعة ماينز (ألمانيا)، بأخذ عينات من الغلاف الجوي في جميع القارات وذلك فوق المدن والبحار، والجبال وفي مواسم مختلفة. وكان التقييم الأولي مثيرا للدهشة: ربع الجسيمات المعلقة في الهواء هي في الواقع مواد بيولوجية ( شظايا من الخلايا، والبكتيريا، والخمائر، والطحالب، وحبوب اللقاح، وحطام النبات أو الحيوانات) مع تركيزات تختلف اختلافا كبيرا اعتمادا على الموسم، والطقس، والأنشطة البشرية. من جانبها، بدأت الميكروبيولوجية ماري دولور أيضًا في الاهتمام بهذا الأمر خلال رحلة تزلج نظمها CNRS، حيث التقت بعلماء فيزياء متخصصين بالجو. وتتذكر دولور ذلك الأمر بالقول «كنا في الحافلة وخلال حديثنا قدمنا اقتراحا مفاده أنه سيكون من المثير للاهتمام معرفة ما إذا كانت هناك كائنات حية في الغلاف الجوي».الكم والتنوعفكرت ماري دولور بشكل خاص بالغيوم وهي وسط رطب وغني بالمغذيات على شكل نترات أو جزيئات عضوية بسيطة. انطلق هذا المشروع البحثي في المحطة العلمية ل Puy-de-Dôme وهو إقليم فرنسي، يقع في وسط فرنسا، وسمي بذلك نسبة للبركان النائم الشهير بوي دي دوم على ارتفاع 1465 م. هنا قام الفريق بتجهيز «شفاطة للسحب» قادرة على ترشيح أي كائنات دقيقة. ولا شك أن الحصاد كان وفيرا. وتقول الباحثة دولور: وجدنا ما بين 10000 و 100000 كائن حي في الملليلتر الواحد، أي بقدر ما هو موجود في مياه الصنبور، ولا شك أن هذه الكمية أقل بألف مرة مما هو في البحر، لكننا كنا بعيدين عن مسألة البيئة العقيمة التي كنا نتصورها حتى الآن مع الأخذ بالاعتبار أن التنوع البيولوجي هنا كان مثيرا بالفعل. فقد تمت ملاحظة ما يقرب من 700 سلالة ميكروبية مختلفة تحت المجهر، المماثلة أو المشابهة جدا لتلك الموجودة في التربة أو البحر أو النباتات. ولكن هل هذه الكائنات كانت كلها حية؟ لمعرفة ذلك، قام الباحثون باستزراعها، دون أن يعيشوا في الأوهام. فالظروف السائدة في الغلاف الجوي قاسية بلا شك، حيث تتراوح درجة الحموضة (PH ) بين 3 و 7، ودرجات الحرارة بين -50 و 20 درجة مئوية. أما الأشعة فوق البنفسجية والراديكالات الحرة فتكسر البروتينات والحمض النووي. ولوحظ أن عددا قليلا جدا من الكائنات الميكروبية استطاعت العيش في المختبر، فمحاولات استزراع ميكروبات معزولة في عينة التربة فشلت لأكثر من 99 ٪ من الأنواع. وتعترف الباحثة دولور بالقول كنا نخاف من عدم استعادة أي شيء. ومع ذلك، لاحظنا استيقاظا لبعض الميكروبات السماوية! فحوالي 1 ٪ من الأنواع التي تم عزلها من السحاب تطورت ونمت في المختبر. وكنا متحمسين جدا لذلك وتملكني انطباع بأن هناك مجالا كبيرا للبحث ينفتح أمامنا وتساءلنا من أين يأتي هذا العالم الصغير في السحب ؟ لا شك أنه يأتي من عاصفة بسيطة من الرياح، ومن تأثير قطرات المطر أو البرد على التربة أو من مرور حيوان أو سيارة لتدفع بالغبار المحتوي على الكائنات الحية الدقيقة نحو الغلاف الجوي. ولكن هل السفر إلى المرتفعات يتم بهذه السرعة ؟ بالطبع لا فالسفر عبر الهواء يمكن أن يكون طويلاً. فوفقا للنموذج الذي وضعه فريق سوزانا بوروز في جامعة ماينز، فإن زمن إقامة هذه الميكروبات في الجو يتراوح ما بين 2 و 188 يوما، بمتوسط 10 أيام، لأن الخلايا البيولوجية تقضي في النهاية فترة قصيرة داخل قطرة الماء. هذا الأمر يدفع الميكروبات إلى السفر بعيدا نحو الارتفاعات أولا والعينات التي أخذت بواسطة الطائرات والبالونات أثبتت وجود كائنات حية دقيقة في جميع أنحاء طبقة التروبوسفير، أي بين علو يبلغ صفر و 18 كم. وقد جمعت العديد من البالونات عينات لكائنات حية دقيقة من طبقة الستراتوسفير على ارتفاع 30 كم، علما أن البيئة هناك جافة جدا وتتعرض لأشعة مدمرة، مع ضغط يقل ما بين 100 إلى 1000 مرة عما هو عليه عند مستوى سطح البحر «. ويعترف ديفيد سميث من وكالة ناسا، والذي يستكشف شروط بقاء الميكروبات في طبقة الستراتوسفير قائلا: في الحالة الراهنة لمعرفتنا، لا نعرف أين يتوقف المحيط الحيوي للأرض، وكلما ازداد ارتفاعا، ازدادت فرصة هذه الكائنات بالانتشار. وقد أثبت ثوران بركان جبل بيناتوبو في عام 1991، أن جزيئات بحجم البكتيريا يمكن أن تلف العالم .
مشاركة :