مثل معظم السياسيين المهمين، إيمانويل ماكرون شخصية مستقطبة. لذلك نجد أن كارهيه استغلوا الاضطرابات في باريس للمجادلة بأن مواقف الرئيس الفرنسي تُظهِر أنه قائد معيب بشكل هائل، بعيد، ومتعجرف، ويروّج لأجندة ليبراليين جدد عفا عليها الزمن. في المقابل، يصر محبوه على أن بطلهم يستطيع الخروج من متاعبه الحالية ويبقى رئيسا يعمل على تحويل البلاد. أي من هذين الحكمين ليس مُقنعا. ماكرون هو بالتأكيد شخصية مثيرة للإعجاب. فقد حدد بشكل صحيح الحاجة إلى إجراء إصلاحات هيكلية للاقتصاد الفرنسي وقدّم بشجاعة الحجة لسياسة التعاون الدولي. لكن الحقيقة الكئيبة هي أن الرئيس الفرنسي تضرر بشدة من احتجاجات حركة "السترات الصفراء"، والعنف الذي رافقها، والانقلاب التام في المواقف في سياسة الحكومة، نتيجة شعورها بالذعر. في الواقع، من المرجح أن تكون أحداث الأسبوع الماضي نقطة تحوّل من شأنها إضعاف رئاسة ماكرون تماما ومنعها من الوفاء بوعودها المبكرة. لفهم السبب في ذلك، نحتاج إلى دراسة ثلاثة جوانب رئيسية لأجندة ماكرون: الإصلاح الاقتصادي الداخلي، والتكامل الأوروبي الأعمق، والحوكمة العالمية. هذه الأفكار الثلاث مترابطة. كانت الفكرة أنه إذا تمكن ماكرون من إثبات قدرته على تغيير فرنسا، فإنه سيُقنع ألمانيا بقبول خطوات حاسمة نحو إقامة حكومة اقتصادية أوروبية حقيقية. الاتحاد الأوروبي الذي يتم إصلاحه وتقويته يستطيع بالتالي ردع قوى التعصب القومي النامية، الواضحة من واشنطن إلى بكين. إذا واجهت أجندة ماكرون المحلية أي متاعب، فإن أجندته الدولية من المحتمل أن تفشل أيضا. هذا بالضبط ما يحدث الآن. الموالون لماكرون محقون في الإشارة إلى أن رجلهم حقق حتى الآن إنجازات حقيقية. فقد أدخل تغييرات على أسواق العمل الفرنسية الجامدة، التي ينبغي أن تجعل من الأسهل استحداث الوظائف. وفاز بانتصار مهم ضد نقابات السكك الحديدية القوية. لكن الشعور بالزخم الذي خلقته مثل هذه الإصلاحات تدمّر الآن. اضطرت حكومة ماكرون إلى التراجع عن قرارها بزيادة الضرائب على الوقود. ومن المرجح أن يعد الرئيس بمزيد من التنازلات لاسترضاء المتظاهرين. الأهم من ذلك أن الإصلاحات المهمة التي كان من المقرر تنفيذها في المستقبل – لنظاميّ التقاعد والصحة – يبدو حدوثها الآن أقل احتمالا بكثير. نتيجة لذلك، الجهود المبذولة لتقليص حجم الدولة الفرنسية، واستعادة الانضباط إلى الموارد المالية الحكومية، وتنشيط النمو الاقتصادي، تبدو أقل قابلية للتحقيق بكثير. بدلا من ذلك، يبدو من المرجح أن يذهب اسم ماكرون في التاريخ باعتباره آخر رئيس فرنسي يتخلى عن الإصلاحات في مواجهة احتجاجات الشوارع. التناقض الفرنسي الأساسي – المطالبة بضرائب أقل وخدمات عامة أفضل – سيبقى بدون حل. في الواقع، يُمكن أن تُصبح الأمور أسوأ بكثير. الاحتجاجات وأعمال العنف في الشوارع من المحتمل أن تستمر لعدة أشهر، ما يوجد شعورا بأزمة دائمة. وحتى إن هدأت المدن الفرنسية بسرعة، فإن خطر أن يخلف ماكرون رئيس من اليمين المتطرف، أو اليسار المتطرف زاد بشكل واضح. في مواجهة هذه التطورات في فرنسا، من غير المرجح أن تلتزم ألمانيا بالإصلاحات الطموحة للاتحاد الأوروبي من النوع الذي حدده ماكرون. عقد من الأزمات الاقتصادية في جنوب أوروبا ترك السياسيين الألمان متشككين للغاية في أي شيء يبدو كأنه "اتحاد تحويلات" قد يجعل دافعي الضرائب الألمان يدعمون بشكل دائم الرفاهية في بلدان الاتحاد الأوروبي ذات القدر الأقل من الملاءة. فرنسا ديناميكية وناجحة بقيادة ماكرون ربما كانت ستتغلب على هذه الشكوك الألمانية "التي تتشاركها هولندا وكثير من بلدان شمالي أوروبا"، وتساعد في دفع منطقة اليورو نحو "الحكومة الاقتصادية" التي يجادل لمصلحتها الفرنسيون. لكن الأحداث في شوارع باريس ستؤكد الأحكام الألمانية المُسبقة التي ترى أن الدولة الفرنسية غير قابلة للإصلاح. في الحقيقة حتى قبل انتفاضة أصحاب "السترات الصفراء"، كانت العلاقات الفرنسية ـ الألمانية في سبيلها إلى التدهور، مع زيادة غضب الحكومة الألمانية مما تعتبره مواقف استعراضية فارغة من قِبل ماكرون؛ والحكومة الفرنسية تشعر بالفزع مما تعتبره انعدام الرؤية والسخاء في برلين. كل هذا يهم عالميا. تحرك ماكرون بجرأة ليصور نفسه على أنه "مناهض لترمب"، وأنه المتحدث الرئيسي في العالم باسم التعاون الدولي. ودافع بشكل قوي عن اتفاق باريس للمناخ، الذي تخلت عنه الولايات المتحدة. في الواقع، التزامه بالعمل على تغير المناخ وراء ضريبة الوقود سيئة الحظ. في مؤتمر السلام الأخير في باريس استنكر ماكرون بشدة نزعة التعصب القومي، بعد أيام فقط من إعلان ترمب نفسه قوميا. يستمتع الرئيس الأمريكي الآن بمتاعب ماكرون، وكتب على "تويتر"، ببهجة "الاحتجاجات وأعمال الشغب في كافة أنحاء فرنسا". وزعم بشكل غير قابل للتصديق أن الجماهير كانت تهتف "نحن نريد ترمب". لكن ترمب محظوظ في أن يكون في البيت الأبيض وليس في الإليزيه. قيادة فرنسا تبدو بشكل متزايد أنها وظيفة مستحيلة. الرؤساء المتعاقبون، بما لديهم من أساليب مختلفة، انتهى بهم المطاف أن يكونوا مكروهين من الجمهور. شُجب ساركوزي باعتباره "يهتم بالأزياء والبريق" بشكل مبالغ فيه. وشُجب فرانسوا هولاند باعتباره رئيسا عاديا فوق الحد. الآن يعتبر ماكرون رئيسا متعاليا فوق الحد. لو استطاع ماكرون أن يكسر هذه الحلقة الكئيبة، لكانت صدقيته على المستوى الدولي في الأعالي. وكان بإمكانه أن يبرز باعتباره البطل العالمي للقيم الليبرالية – هناك حاجة ماسة إلى بطل من هذا القبيل. لكن يبدو الآن من غير المرجح إلى حد كبير أن يتمكن ماكرون من إنقاذ العالم. سيكون محظوظا إن استطاع إنقاذ رئاسته هو بالذات.
مشاركة :