تكرّرت ملاحظات المنظمات الدوليّة المختصّة بالطفولة، حول إشراك الأطفال في الاحتجاجات والمظاهرات الشعبيّة التي انطلقت في أغلب المدن السوريّة منذ العام 2011، لقد حاولت عدّة منظمات تبيان أن التظاهر فعل سياسي يتطلّب تكوين وعي ورأي لا تملكه الطفولة، وبالتالي يُعتبر إشراكها في التظاهرات إقحام للطفولة في موضوعات لا يمكن لها تكوين رأي حيالها. لكن إجابات الأهالي في المناطق المتظاهرة كانت أن المظاهرة فعل يشترك فيه كل أهالي الحي، ويشارك في التحضيرات والإعداد له كلّ القاطنين في الحي بمن فيهم الأطفال الراغبين بالمشاركة في تنظيم مكان التظاهر والإعداد للتجمّع الغفير، إلّا تحضير الأغاني وترديدها وهي النقطة الأهمّ والأكثر حساسية، لأن ظاهرة غناء أغاني الثورة من قبل الأطفال ستولّد في العام 2012 ظاهرة ما يُعرف باستغلال الأطفال في أغاني الصراع.الطفولة وأداء الأغاني الثورية "من الشائع في الأنظمة الشموليّة أن تُستَعمل الطفولة في الترويج الإيديولوجي، وهذا ما مهّد الأرضية لاستعمال الطفولة في أغاني الحركات التكفيريّة المتشدّدة وكذلك الحركات الإرهابية" شاركغرد في مقاله "في حرب التتار شو ذنب الطفولة؟" يُعيد وسام كنعان جذور استغلال الطفولة إلى ما قبل المشاركة في الأغاني الثوريّة: "من الشائع في الأنظمة الشموليّة أن تُستَعمل الطفولة في الترويج الإيديولوجي، وهذا ما مهّد الأرضية لاستعمال الطفولة في أغاني الحركات التكفيريّة المتشدّدة وكذلك الحركات الإرهابية". الأناشيد المدرسيّة في خدمة النظام الحاكم في العام 2013، نشرت الصحفيّة السوريّة ضحى حسن نصّاً بعنوان "حين قالت لي معلمتي أن حافظ الأسد كما الله لا يموت"، حاز النصّ على جائزة سمير قصير لذلك العام، وهو يتناول موضوع الفرض على كلّ طلاب المدارس ترديد شعارات إيديولوجيا وأفكار الحزب الحاكم، وتمجيد شخصيّة ومزايا الرئيس القائد: "وكنّا نقف جميعنا "رعايا الأسد" مستعدّين، ويبدأ الأطفال مرتدين زيّ الطلائع بالغناء أمام صورة الرئيس: "للبعث يا طلائع، للنصر يا طلائع، أقدامنا حقول، طريقنا مصانع، وتلمع الرايات في مواكب الطلائع، يا راية الحريّة يا شعلة القضيّة...."، وهكذا يتحوّل الطفل إلى عسكري، ويبدأ بتعلّم أن يكون جزءاً من القطيع، والتبعية الخالصة للقوة الأكبر، ويعتاد على ترديد ما يُقال له". من المعروف أن المدارس السوريّة تفرض على تلاميذها من 6 سنوات وحتى 18 سنة ترديد شعار صباحي هو: "أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة، أهدافنا وحدة حريّة اشتراكيّة"، هذا هو النوع من استغلال الطفولة التي تحدّث عنه وسام كنعان واعتبره سابقاً على أغاني المظاهرات. من وثائقي عمر أميرالاي، طوفان في بلاد البعث 2003ترويض الطفولة بالكورال الكنسي كان الكورال المسيحي الكنسي – وظيفياً- يشبه مؤسّسات الأحزاب الشموليّة التي تُجبر طلاب مدارسها على ترديد شعارات تحمل إيديولوجيا الحزب الحاكم ورؤاه السياسيّة، وتدفع باتجاه إقامة الحفلات المدرسيّة الغنائيّة في الأعياد الوطنيّة لتضع لائحة أغانٍ وأناشيد تخدم أفكارها ورؤاها شاركغرد بعد انتشار المسيحيّة في أوربا، اعتبرت الكنيسة أن مهمّتها الأساسيّة هي التخلّص من رواسب الثقافة الإغريقيّة واليونانيّة فلجأت بقوّة لإدخال التراتيل إلى الطقس المسيحي بشرط أن تكون نصوصها مستمدّة من التوراة والإنجيل، وأصبحت الأنشطة الموسيقيّة الكنسيّة أداة البروباغندا الأكثر فعالية في التأثير وبثّ الفكر الديني المسيحي. إذن، كان الكورال المسيحي الكنسي – وظيفياً- يشبه مؤسّسات الأحزاب الشموليّة التي تُجبر طلاب مدارسها على ترديد شعارات تحمل إيديولوجيا الحزب الحاكم ورؤاه السياسيّة، وتدفع باتجاه إقامة الحفلات المدرسيّة الغنائيّة في الأعياد الوطنيّة لتضع لائحة أغانٍ وأناشيد تخدم أفكارها ورؤاها. تبيّن الوثائق العائدة إلى تلك الفترة أن الأطفال الذكور كانوا يشكّلون عماد فرق الكورال الكنسيّة، فلقد حرَّم البابا على النساء منذ وقت باكر الترتيل في الكنيسة، وفي عام ١٥٨٨، منع البابا سيكستس الخامس الفتيات من الترتيل على خشبة أيّ مسرح عام أو دار أوبرا عامّة، وكرَّر البابا إينوسنت الحادي عشر هذا الحظر بعد نحو ١٠٠ سنة، لقد أخرجت الكنيسة بهذه السياسة المرأة من تاريخ الموسيقا، وجعلت الغناء الكورالي حكراً على الذكور، ولكنَّ الكنيسة باتِّخاذها هذا الموقف المتصلّب مهَّدت الطريق لمشكلة أخرى أكبر هي المغنون الخصيان.أقوال جاهزة شاركغردللموهبة جانب عنيف نلتمسه في ظاهرة تاريخية هي قسوة الآباء وإجهاد أبنائهم كي يمتلكوا الموهبة الموسيقيّة التي كانت تدرّ الأموال الطائلة من البلاطات الملكية، كما هي اليوم تدرّ الأموال الطائلة من برامج مسابقات وغناء الأطفال شاركغردالشعارات التي يرددها الأطفال في مدارس الأنظمة الشمولية، تحوّل الطفل إلى عسكري، ويصبح من خلالها جزءاً من القطيع، ويتعلم التبعية الخالصة للقوة الأكبر، ويعتاد على ترديد ما يُقال لهالطفولة في خدمة الذاكرة اللحنيّة رغم أن تاريخ الموسيقا يعود إلى 3500 قبل الميلاد، إلا أنه توجّب على الإنسانية الانتظار حتى عام 1000 ميلادي، لتبتكر لغة التدوين الموسيقي. ابتكر الراهب البنيدكتي كويدو أوف أريدذو 992 – 1033 م، نظام التنويط الموسيقي، وأصبح بالإمكان لأوّل مرة الاحتفاظ بالألحان عبر كتابتها بلغة الصولفيج، لكن قبل ذلك، كيف كانت تتمّ عملية حفظ وتناقل الألحان، قبل لغة التدوين الموسيقي؟ يبيّن لنا وثائقي "تاريخ الموسيقى، بي بي سي، 2013" أن مهمّة حفظ الألحان كانت ملقاة على عاتق أطفال الكنيسة، نراهم يجولون في الحدائق وفي باحات الكنيسة وهم يكرّرون الألحان لغاية حفظها وحمايتها من النسيان، كأن هؤلاء الحفظة الأطفال أصبحوا أرشيف الفن الموسيقي لصالح الرعاة والمهتمّين بتاريخ الموسيقا. أكمل القراءة القسوة العائليّة في صناعة الموهبة الموسيقيّة هناك ظاهرة معروفة للغاية في تاريخ الموسيقا وحياة أعلامها، هي قسوة الآباء وإجهاد أبنائهم كي يمتلكوا الموهبة الموسيقيّة التي كانت تدرّ الأموال الطائلة من البلاطات الملكية، كما هي اليوم تدرّ الأموال الطائلة من برامج مسابقات وغناء الأطفال. صارت شهرة الطفل العبقري أماديوس موزارت (1765 – 1791) مصدر ثراءٍ لعائلته، وأمثولة تُغري العديد من الآباء الآخرين في أوربا، لتربية أبنائهم تربية موسيقيّة صارمة، ليُظهروا عبقرية في الطفولة تضمن لهم مورداً مالياً وحياة رغيدة مع الطبقة الأمراء والقصور، كان والد لودفيغ بيتهوفن (1770 – 1827) يضرب ابنه بقسوة، وخصوصاً أنه كان كحوليّاً، وهو يحثّه على التدريب على مدار اليوم، وحتى ليلاً ليتقن العزف على البيانو. في فيلم بعنوان "الحب الخالد ، 1995"، يقدّم لنا المخرج برنار روز تلك اللقطات القاسيّة التي تصوّر عنف والد بيتهوفن الذي بقي مؤثراً على شخصية بيتهوفن وحياته الذهنيّة والنفسيّة حتى آخر أيام الابن. لقد كان وراء عبقرية بيتهوفن وإبداعه آلام طفل يهرب لاجئاً إلى سقف المنزل هرباً من ضربات أبيه السكّير المتتالية. يكتب صميم الشريف في كتابه "أعلام الموسيقى الغربية،1994": "كان والد بيتهوفن يوقظه ليلاً بعد عودته من الخانة مخموراً، ويأمره أن يعزف بعض الأعمال الصعبة، وكان ينهال عليه ضرباً عندما يخطئ في عزف أحد المقاطع". في النصف الثاني من القرن العشرين عرفت البشريّة أيضاً قصّة مماثلة عن طفل استُغِّلّتْ موهبته الموسيقية بإجحاف من قبل عائلته، إنه مبتكر موسيقا البوب مايكل جاكسون 1958 – 2009. كان اسم الفرقة العائلية جاكسون 5: لاحظ الكثير الموهبة الغنائيّة الكامنة في عائلة جاكسون، فحاول ربّ الأسرة، جوزيف جاكسون، أن يسجّل أولاده بعقد مع شركة غنائية، في عام 1962 قام الأخوة "جيرمين، جاكي، تيتو" بتقديم العروض في الملاهي الليلة والحانات في مدينة غاري، في عام 1963 انضمّ إلى الفرقة مايكل ومارلون، بعدها تمّ تغيير اسم الفرقة إلى جاكسون 5 لأنها تضمّ الأخوة الخمسة، بعدها قامت الفرقة بتقديم العروض لتشمل عروضاً في المسارح الكبرى، مع شركة موتاون وقّع والد الجاكسون عقداً لفرقة أبنائه، أحد بنود هذا العقد أن الأخوة ليس لديهم أي نوع من الحريّة في اختيار موسيقاهم أو تأليفها أو تلحينها، وأن لهم ما نسبته 2.8 بالمائة من أرباح الألبوم أو الأغنية الفرديّة.خِصاء الأطفال لأجل طبقة صوتيّة محبّبة للبالغين في مجلّة الحياة الموسيقية العدد 35 (2005)، يكتب محمد حنانا :كاستراتو كلمة إيطاليّة يعني مخصي، وقد أطلقت على المغنّي الذي يخضع لعمليّة خِصاء قبل سن البلوغ، ليبقى محتفظاً بصوت من طبقة السوبرانو أو الكونترالتو، وهاتان الطبقتان هما من طبقات الغناء النسائيّة، لكن الكنيسة منعت المرأة من الغناء. ظهر صوت الكاستراتو للمرة الأولى في القرن السابع عشر في كورس الكنيسة، وفي ذلك الحين كان الأولاد الذين يتمتعون بموهبةٍ موسيقيّة، خصوصاً موهبة الغناء، يخضعون لعملية خِصاء قسريّة للحؤول دون تغيّر أصواتهم الأنثويّة. ويقول جيمس أندرسون مؤلّف معجم الأوبرا والأوبريت الكامل، كانت الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة تتغاضى عن هذه الممارسة مستندة في ذلك إلى واحدة من رسائل القديس بولس التي يقول فيها: "لتصمت نساؤكم في الكنائس لأنه ليس مأذوناً لهن أن يتكلمن بل يخضعن كما يقول الناموس أيضاً". استخدمت الكنيسة اليونانية المغنين الخصيان كمرتِّلين في الجوقة منذ القرن الـ12 فصاعداً. ولكن ماذا عن الكنيسة الكاثوليكيّة؟ هل كانت ستسمح بذلك الآن وتستخدم المغنين الخصيان؟ في سجلات الڤاتيكان يُدرَج اسم پادري سوتو، مرتِّل في الجوقة البابوية سنة ١٥٦٢، بين الذين يؤدون الفالسيتّو، لكنَّ سوتو كان مغنياً خَصيّاً. إذن، قبل 27 سنة على الأقل من سنة 1589، أي السنة التي أعاد فيها مرسوم البابا سيكستس الخامس تنظيم مرتِّلي بازيليك القديس بطرس ليشملوا أربعة مغنين خصيان تجاهلت الڤاتيكان سرًّا قرار مجمع نيقية. منذ سنة 1599، جرى الاعتراف بوجود المغنين الخصيان في الڤاتيكان. وما إن سمحت السلطة العليا في الكنيسة بهذه الممارسة علناً حتى صار المغنون الخصيان أشخاصاً مقبولين، وروسّيني، ڠلاك، مايربير، وهاندل هم بين مؤلِّفي الموسيقا المقدَّسة والدنيويّة على السواء المخصَّصة للمغنين الخصيان. في مقاله المعنون "الخصيان: تشويهٌ باسم الدين"، يوضّح مجدي الصايغ الأسباب التي كانت تدفع العائلات للقبول بخصي أبناءها: "كان المغنون الخصيان يولدون عموماً لوالدين فقراء، وإذا أظهر الولد أية موهبة موسيقيّة، كان من الممكن بيعه فوراً في بعض الأحيان لمعهد موسيقي. وكان آخرون يؤخذون من جوقات مرتِّلي بازيليك القدّيس بطرس في روما والمعاهد الكنسيّة المماثلة، وكان من الطبيعي أن يأمل الأهل بأن يصير ابنهم المغني الخصيّ مشهوراً ويعيلهم في شيخوختهم". ويتابع مجدي صايغ عن الموضوعة: "حاز بسرعة المغنون الخصيان شعبية كبيرة. على سبيل المثال، أُعجب البابا كليمنت الثامن (1592-1605) كثيراً بمرونة وعذوبة أصواتهم. ورغم أنه كان من المفترض أن يُحرَم كنسياً كل مَن يُعرَف أن له علاقة بعملية الخَصي، كان عدد كبير من الصبيان يتوافدون باستمرار كلما دعت الحاجات الموسيقيّة الكنسية، وكانت المتاجر تعلن، "كوي سي كاسترونو راڠاتسي (هنا يُخصى الصبيان)". وأعلن أحد محلات الحلاقين بفخر: "هنا يُخصى مرتِّلو جوقات المصلّى البابوي» ويُقال انه ربما خُصي نحو 4000 صبي إيطالي لهذا القصد خلال القرن الـ18. ولا نعلم كم من الصبيان ماتوا أثناء ذلك". في ملف خاص عن "المغين الخصيان Castrato" يكتب باتريك باربييه، من الصين إلى اليونان، ومن الهند إلى أوربا الجنوبية، تعدّدت الأسباب التي أدّت إلى ممارسة الخِصاء، لكن من بينها ما هو متعلّق بالغناء، فكان يتم استخدام أصوات مغنين مخصيين في المراسم الدينيّة. وهذه هي الحالة في إمبراطورية الشرق المسيحيّة في القسطنطينية. كانت العملية الجراحيّة تجري للطفل قبل أن تظهر أية علامة من علامات البلوغ عليه، بحيث يحفظ الصوت الكريستالي للفتى من التغير الذي يطرأ عليه عند سن البلوغ، وهذا هو الفرق المعروف بين هذا الخصاء وبين مخصيي كلّ العصور، فهؤلاء يمكن فقدان رجولتهم في أي سن، لأن العمل في الغناء ليس هدفهم الأول، أما الخصيان المغنّون فعليهم أن يتعرّضوا للخصي وهم ما يزالون في مرحلة الطفولة. يقدر محمد حنانا أن ظاهرة الخصاء لأجل طبقة الكاتسراتو استمرّت على مدار ثلاثة قرون. في فيلمه عن أشهر المغنّين الخصيان على الإطلاق في تاريخ الغناء الإيطالي والأوربي (فارينييلي، 1994)، يبيّن لنا المخرج جيرار كوربيو ذلك المصير المأساوي التي آلت إليه حياة هذا الصوت العبقري، يقول المخرج: "إنها سيرة شخص اغتيل في جيده، في غريزته الجنسية، وحاول أن يستردّ كرامته المسلوبة". ويحاول الفيلم التركيز على علاقة فارينييلي بأخيه الأكبر ريكاردو، الذي يُعتقد بأنه كان مخصياًّ أيضاً، يروي الفيلم علاقة عاطفية بين أخوين عانيا من موهبتهما الصوتية الغنائية حدّ الخِصاء. اقرأ أيضاً"وصمة عار".. يتامى العراق المنسيون على هامش معركة تحريرها من داعشجهاز المناعة: كيف تحول الجسد إلى خط دفاع وطنيّلأول مرة في العالم العربي...بيروت تحتفل باليوم الوطني لثقافة اللاعنف كلمات مفتاحية الأطفال الاستغلال العنف الموسيقى التعليقات
مشاركة :