يتناول الكاتب القطري عبدالعزيز آل محمود في روايته الأولى «القرصان» (دار بلومزبري – مؤسسة قطر للنشر) الصراع الذي اندلع في بداية القرن التاسع عشر للسيطرة على الخليج العربي وحماية طرق التجارة البحرية بين الإمبراطورية البريطانية والقبائل العربية. وهو صراع استُخدمت فيه أسلحة الحرب والسياسة والديبلوماسية وزرع الشقاق وعقد التحالفات واستخدام الهدايا والمال من الطرف الأقوى، واستُخدمت بعض هذه الأسلحة من الطرف الأضعف. في محاولة من الأمبراطورية البريطانية لحماية طرق التجارة البحرية في مرحلة أولى، والسيطرة على منابع البترول لاحقاً، تقوم بمهمة مزدوجة؛ تُرسل القبطان «لوخ» على متن سفينة قتالية إلى الخليج للقضاء على القراصنة من جهة، ويُرسل حاكم بومبي البريطاني الكابتن سادلر محمّلاً بسيف مرصّع هديةً إلى ابراهيم باشا المصري لاستمالته إلى الحلف المزمع عقده للقضاء على القراصنة والوهابيين. وهكذا، يستخدم المستعمِر المسارين العسكري والديبلوماسي لتحقيق المهمة نفسها. في الطريق من بومبي إلى مسقط يهاجم القرصان أرحمة بن جابر السفينة «ثيتس» التي تقلّ سادلر ويصادر السّيف المرصّع، فتشكّل هذه الواقعة انعطافاً في مسار الأحداث، وتغدو أولويّة القبطان لوخ والكابتن سادلر استعادة السيف قبل تنفيذ المهمة الرئيسيّة. ولتحقيق المهمتين الرّئيسة والفرعية، تُخاض معارك، وتُعقد تحالفات، وتُدسّ دسائس، وتُرسَم مؤامرات من جهة المستعمِر. وفي المقابل، يلجأ المستعمَر، قبائلَ وقراصنةً، إلى آليات الدفاع المتاحة من غزو، وإغارة، وتحالف، ودهاء، ومناورة، وقتال... وعلى كثرة الخيوط السردية التي تنتظمها جديلة الرواية، وهي خيوط تتفاوت في طولها، وتخضع لجدلية الظهور والاختفاء حتى تنقطع تباعاً، يمكن اختزالها بحركتين تكتنزان أحداث الرواية، حركة السيف المرصّع منذ مصادرته حتى تسليمه إلى المُهدى إليه، وحركة السفن المختلفة العائدة للأمبراطورية البريطانية أو القبائل العربية أو القراصنة. ترصد الرواية حركة السيف منذ سلبه من الكابتن سادلر على متن السفينة «ثيتس» المتجهة من بومبي إلى مسقط، مروراً بإخفاء أرحمة القرصان تحت الأرض في قلعة الدمّام، وقيام ابنه بشر بإخراجه ليكون مهراً لحبيبته، فيغدر بأبيه الذي ائتمنه عليه، وتسليمه إلى سادلر مجدّداً في إطار صفقة تعاون بينهما، وسيطرة أرحمة عليه مجدّداً في مصادفةٍ روائية مصطنعة، وتسليمه إلى القبطان لوخ في خطوة غير متوقعة روائيّاً مقابل عدم تدخّل الإنكليز بين أرحمة وأعدائه الداخليين، وتسليمه إلى سادلر مجدّداً لينجز المهمة الموكلة إليه، وصولاً إلى تسليمه إلى المهدى إليه ابراهيم باشا المصري. ترصد الرواية حركة السفن المختلفة في مهماتها الحربية أو الديبلوماسية أو المقرصنة أو المنخرطة في معركة الثأر الداخلي بين العرب... وهذه الحركة الثانية هي الأشمل التي تتضمّن الحركة الأولى. على أن العلاقة بين الحركتين هي علاقة تكامل وتعاضد في السعي إلى تحقيق المهمة نفسها، فقد يتم توظيف حركة السفن لمطاردة سارق السيف وإيصاله إلى صاحبه، وقد يتم توظيف حركة السيف في سياق تحقيق حركة السفن لعقد التحالفات والقضاء على القراصنة. تنخرط في هاتين الحركتين شخصيات الرواية المختلفة، المتفاوتة حضوراً وأهمية، وتتوزّع على جبهة المستعمِر من جهة، وجبهة المستعمَر من جهة ثانية. فعلى الجبهة الأولى، يمثّل القبطان «لوخ» الوجه البشع للاستعمار بزرع الشقاق ودسّ الدّسائس والتنكر للوعود ونقض العهود والتقلّب والانقلاب على الاتفاقات وتحريض الخصوم بعضهم على بعض، وتقديم المصلحة على ما عداها من مبادئ وأخلاقيات. وهو شخصية فوقية، لا تعنيه العلاقات الإنسانية، يمزج بين المهمة الموكلة إليه وطموحه الشخصي الذي يتحكّم بقراراته. أمّا «غولاب»، ممثل شركة الهند الشرقية، فيجسد الفساد والوصولية، وثمّة «بروس»، المقيم البريطاني في أبو شهر، الذي ينفّذ سياسة بلاده بخبثها، و «ماثيوز»، نائب المقيم، الذي يثير سخرية البحارة بشكواه الدائمة من القذارة وهوسه بالنظافة ومنديله الذي يضعه على الفم والمظلة التي يحملها مساعده بينما يمثل القنصل في جزيرة «ماديرا» الوجه الإنساني للآخر الغربي برفضه القتل وغزو الآخرين في ديارهم. على الجبهة الثانية، يمثّل أرحمة بن جابر الوجه الثائر للقبائل العربية، ويشكّل مزيجاً من الثّائر على المستعمِر، والوطني الذي يرفض التآمر على بني قومه، والبدوي الذي يمارس قرصنة هي نوع من الغزو البحري الذي يذكر بالغزو الصحراوي، والحكيم الذي يسعى إلى حقن الدماء في معركة غير متكافئة، غير أن إصراره على قتال أبناء عمومته ينتقص من حكمته ويرسم نهايته الشجاعة. وهذه الشخصية تمثل قِيَم الفروسية والشجاعة والكرم ورد العدوان والوفاء بالعهود واحترام الاتفاقات مما تزخر به البادية العربية والخليج العربي. وقد تحوّلت القرصنة معه إلى قيمة إيجابية بما هي تصدٍّ للاستعمار وأدواته الخارجية والمحلية. ويمثّل ضرار الإخلاص لسيده والتفاني في سبيله، وأبو مطر الصداقة الحقة. أمّا بشر وأحمد فيمثّلان في جانب من سلوكهما الغدر تحت وطأة المال أو الحب، ويدفعان الثمن، فيثوب الأول إلى رشده، ويموت الثاني غرقاً. ويشغل المكان حيّزاً كبيراً في عناوين الفصول كما في متونها، فقلّما يخلو عنوان من مفردة مكانية تنتمي إلى معجم البحر اللغوي أو الجغرافيا البحرية أو المكان المؤقّت من قبيل: ميناء، ساحل، جزيرة، شبه جزيرة، خليج، بحر، سفينة، محيط، زورق، طريق... المكان في العناوين والمتون مكان بحري، جغرافي، مؤقّت، يناسب المرحلة التاريخية الانتقالية التي ترصدها الرواية. وهكذا تتواءم الحركة الزمنية في التاريخ مع الحركة المكانية في الجغرافيا، فنكون إزاء رواية تاريخية - جغرافية في آن.
مشاركة :