نزوع السردية الحديثة إلى الواقع والتحامها به، يتأتى من منطلق تعقّد الواقع في الأصل وأنها تسعى لأن تُقدِّم امتلاكا جماليّا ومعرفيّا للراهن الذي تصدر الرواية أثناءه، وكذلك للواقع العام الذي يحاول الروائي اكتناه وتقديم رؤية عنه. وإن كان ثمّة دافع آخر يتمثّل في كون الواقع ذاته صار أغرب من الخيال، ومن ثمّ مجرد استحضاره يبعث الغرابة والدهشة في المتلقي. اللافت أن سردية الواقع صارت أكثر تشويقا من الخيال، بما أضفاه الواقع وأحداثه من وقائع لم يعد باستطاعة إنسان الألفية الجديدة أن يُصدِّقها. وسردية العنف واحدة من أهم التمثيلات التي تكشف فداحة هذا الواقع وغبنه. وبقدر قسوة الصورة التي أظهرتها إلا أنها أكّدت دناءة العالم، الذي استبدل الآلة لا لتساعده، وإنما لتقتل وتشرّد أخيه الإنسان. صور الطفولة المنتهكة متعدّدة ولا تقف عند بلد معين أو حتى دين معين، فالجميع سواء ومدانون. تكفي نظرة لأطفال سوريا الذين صاروا وهم يجتازون البحر سردية لا تحتاج إلى تدوين. نقّل عينيك حيثما شئت ستجد أطفال العالم الثالث -خصوصا – يرفلون دون غيرهم في مسغبة، وتطاردهم لعنة الحروب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل. عبر حكاية الصبي فارح حسنو أو فارهو تقدّم ليلى عبدالله الكاتبة العمانيّة في أولى رواياتها “دفاتر فارهو” منشورات المتوسط في إيطاليا، مأساة العصر الحديث، وثالوثها المرعب؛ الحرب والتشرّد واللجوء. تبدأ الحكاية بفارح وقد بلغ الثالثة والأربعين من العمر، يستعرض حياته أمام الصحافي كارل الذي سيحوّلها إلى فيلم وثائقي، منذ أن كان صبيًّا هرب مع أمه وأخته من بلدته بوصاصو الصومالية إلى إحدى الدول الخليجيّة، فارين من الحروب والمجاعات، ليقعوا في فخٍ لا يقلُّ قساوة عن عالم المخيّمات واللجوء والحروب. ضحايا العنف والحروب والمستبدين ضحايا العنف والحروب والمستبدين دفاتر الألم الرواية في الأصل قائمة على فكرة الدفاتر التي سجّلها فارح طيلة سنوات سجنه، وتركها لصديقه كارل الذي أخذ يلاحقه لعمل فيلم وثائقي عن حياته، حيث يتوجه لكارل قائلا “ها هي الدفاتر التي أخشاها أمامكَ، وقد آن أوان فضّها، ولكَ، يا كارل أن تجسّد حكايتي كما يليق بفيلمك الوثائقي”، حيث “كانت ذاكرته عدته وعتاده”. ومع خشية التعرية والبوح أمام كارل يُعطي له هذه الدفاتر التي هي بمثابة إثبات وجود لهويته بعدما خسر أفراد أسرته كلها. تتخلّل هذه الدفاتر ثلاث حكايات لثلاثة أطفال من جنسيات مختلفة، فقد صارت “الأوطان في جراحها وقسوتها شبيهة وإن اختلفت مسمّياتها”. وهي تعكس واقعا سلطويّا قاهرا، يَسرق من هؤلاء الأطفال براءتهم، وأبوّتهم، والأهمّ سلبهم إحساسهم بالأمان في أوطان نشدوا فيها السلام والأمن، فارتدت صوبات بنادقها إليهم، فكما يقول لكارل “نحن الجوعى، نحن المعدمون، نحن البدون، نعم البدون، دون أوطان حقيقة، فأوطاننا تبرأت منّا”. إزاء هذا الواقع اضّطر الجميع إلى الهروب إلى المنافي الاختياريّة، التي كشفت عن أزمة استلاب هوية لهم في هذه الأماكن. ومن ثم كان الإكثار من الشريط اللغوي المحلي لهؤلاء الفتية، بمثابة إحدى الحيل لمقاومة هذا الذوبان في المجتمعات الجديدة، حتى أن أم عبدالصمد كانت إذا زار أحد ابنها لا تتكلّمُ وتتابع مشاهدة أحد البرامج في تلفزيون كراتشي، كنوع من الاحتماء. إضافة إلى صبغ المكان بمفردات وعادات أماكنهم القادمين منها، وهو ما يعدّ تشبثا بإرثهم الثقافي، ورفضا للتغيّرات الإجبارية على هويتهم. الحقيقة أن محنة الوافدين أو البدون لا تتوقف عند اللغة أو حتى عند مخيمات اللجوء، والإيواء، وإنما تسير معهم كظلهم فلا تفارقهم في البلدان البديلة، حيث المعاناة ومعاملة أهل البلاد الفظّة، واعتبارهم هامشا، كما حدث مع والد عبدالصمد عندما أخطأ. أو القتل الخطأ الذي يتعرّضون له بسبب طيش الشباب أثناء قيادة السيارة على نحو جثة الرجل البنغالي. فالناس في هذه البلاد لا يموتون كما يقول الراوي بالجوع ولا من الحروب ولا حتى من الأمراض القاتلة “إنما يموتون من السيارات المسرعة ومن تناول الأطعمة حتى التخمة من البلادة والوحدة والثراء”. الراوي نقمته تتبدى في سخرية مريرة من الواقع حوله، وكذلك في صورة المدينة القاسية المتجردة من إنسانيتها في صورة الرجل الخرِف الذي يقوم بجمع أعقاب السجائر، وإن كان ثريّا وله أبناء إلا أنهم خصّصوا له بنغاليا يلاحقه كظله. كل حكاية من هذه الحكايات الثلاث تتشابك مع الأخرى، وتقدم في النهاية صورة مجمّعة عن المآسي والانتهاكات التي يتعرّض لها أطفال العالم، من جرّاء سياسات لا علاقة لهم بها، تارة من فرط النزعة الاستعمارية والصراعات كما في حالة فارح الذي فقد أباه، ولم يتمكن من أن يُنادي عليه كما أخبر كارل، بسبب القراصنة الذين نزلوا إلى شاطئ البحر واصطحبوا الصيادين للسطو على سفينة وما عاد، فتشردت الأسرة بالكامل. وبالمثل سطوة السُّلطة الدينيّة التي حرمت قاسم من أمه. بعد أن قام الأب المتشدّد دينيّا بقتلها بدعوى الفسق؛ لأنها كانت تكتب الشعر ونشرت صورتها. أو بسبب استبداد أجهزة السلطة الأيديولوجية بتعبير ألتوسير كما فعلت مع قرش بائع الملابس النسائية في كراتشي، بعد أن أراد حماية إحدى زبائنه من تحرش أحد رجال الشرطة، وما كان من الأخير إلا أن استدعى رفقائه، الذين قاموا بتأديبه فتحوّل إلى طالبان، وفي مرحلة لاحقة أحرق القسم الذي جاءت الفرقة منه لتأديبه وأيضا قتل الضابط الذي تعدّى عليه. الرواية في الأصل قائمة على فكرة الدفاتر التي سجّلها فارح طيلة سنوات سجنه، وتركها لصديقه كارل الذي أخذ يلاحقه لعمل فيلم وثائقي عن حياته، حيث يتوجه لكارل قائلا "ها هي الدفاتر التي أخشاها أمامكَ، وقد آن أوان فضّها، ولكَ، يا كارل أن تجسّد حكايتي كما يليق بفيلمك الوثائقي" تتجسد مع أوّل مشهد في الرواية عبر شخصية بطل الرواية فارح سمات الضياع وفقد الهوية، حيث حالة الاغتراب بادية عليه، وكأنه مُنسحق ونكرة على الرَّغم من الضجيج حوله -حتى ولو كان من قبيل التمثيل على الضحية- وهو الإحساس الذي يشعر به فاقدو الأوطان، فعندما يسأله صاحب السيارة الذي كان يتحيّن الفرصة للإيقاع به فريسة للعصابة يقول “ممكن تساعدني، أنا ضايع”. حالة الارتياب التي صار عليها المُطارَد جعلته يتنازل عن هويته طوعا أحيانا وكرها أحيانا أخرى، فما إن يسأله صاحب السيارة عن هويته وأبيه؟ يختلق هوية جديدة، تعزله عن ذاته ووطنه الذي هو منعزل عنه بفعل الإبعاد والهروب، لدرجة أنه “لم يتعرّف على صوته”، فكما يقول “بدا غريبا، متحرّرا عني وعن حقيقتي”. وبالمثل يتكرّر المشهد عندما تفد الأسرة إلى الدولة الخليجيّة، فالخال يمحو هوية الأم والابنة، فيستبدل اسم الأم من لملم إلى لميا لأن أصحاب هذه البلاد لا يميلون للأسماء الغريبة. وبالمثل منغستو نفسه استبدله كفيله بمنصور. لكن المعنى الحقيقي للاغتراب يتمثّل في طمس “دياناتها”، ففي “هذه البلاد من الأفضل أن تكوني مسلمة بمظهرك الخارجي ولا يهم ما تؤمنين به في داخلك”. نفس الشيء يحدث مع والد عبدالصمد، حيث أرغمه كفيله على أن يترك مهنته القديمة كخيّاط للنساء. وامتثالا لقرار كفيلة صار محل راشد لتفصيل ملابس الرجال، وهو ما كاد يجهز عليه عندما أخطأ وفصل كندورة لأحد الشباب، الذي داهم المحل آخذا بخناق والد عبدالصمد نافثا لعناته عليه. كسر الغنائية تعمد المؤلفة في استعادة الحكاية إلى تقنية الاسترجاع، حيث السرد يعود إلى الوراء عبر هذه الاستدعاءات التي تستحضر أزمنة مختلفة، تعود إلى أماكن الطفولة والنشأة، على تعدّدها، بكل ما حملته من آلام ومُعاناة، وظلت عالقة بذاكرة الأطفال، على اختلاف هوياتهم؛ فارهو وعبدالصمد وقاسم. ثمة اتكاء على الأنا في السرد، وإن كانت ثمة حيل أسلوبية لكسر غنائية السرد بالأنا التي تهيمن على شخصيات الرواية. الملاحظة المترائية للقارئ أن الرواية تعتمد على التعددية، سواء تعددية اللغة وأيضا تعددية الصوت. فاللغة في الكثير منها جاءت متماهية مع جنسيات هؤلاء الوافدين، في محاولة منهم للتشبّث بالهوية، خوفا من الذوبان في المجتمعات الجديدة، ومن ثمّ نرى شريطا لغويّا يُمرَّر عبر السرد والحوارات يكشف هذا الوله بالتشبّث بالهوية. وثمّة تعدديّة على مستوى الصوت / الحوارية. فالرّواية أقرب ما تكون إلى رواية أصوات حتى ولم تأخذ هذا الشكل بصورة مباشرة، فثمة رَوْيّ بالأنا وهو يعود دوما على فارح، حيث يسرد عن ذاته وعن رحلته من معسكرات اللجوء إلى هذا البلد الخليجي، ويومياته في المدرسة وعلاقاته بأصدقائه. يتكرّر السرد بالأنا مع كافة الشخصيات حيث الأم تروي مأساتها ومأساة زوجها بذات الضمير، وهو ما يفعله قاسم عندما يَرْوِي وقائع ما جرى لأمه، وتلصق به عائشة في نوع من التطهّر لما حدث لها مع موظف الإغاثة. أبرياء تطاردهم لعنة الحروب أبرياء تطاردهم لعنة الحروب كما يقوم الرّاوي الأنا بلعبة استبدال الهو بالأنا، عندما يسرد عن قاسم، وإن كانت ثمة مراوحة بين الأنا والـ”هو”، فتارة فارح يروي الحكاية كما رواها له قاسم، فيقوم الأنا بدور الوسيط، وتارة تتخلّل السرد مقتطفات مسرودة بالأنا على لسان والدة قاسم وأخرى على لسان والد قاسم “سأفضحك يا فاجرة.. أقسم بالله بأني سأفضحك، ثم أقتلك.. لكن قبل أن أزهق روحك، أخبريني بالخائن الذي كتبت له هذه النجاسات، يا فاجرة هيّا انطقي”، وهو ما يعطى السرد إيقاعه. وأيضا يستعير بالضمير “الأنت” في خطابه لكارل. التعدّد الظاهر في خطابات الرواية يقابله تعدّد في أشكال كتابة النص، فثمة اختلافات في بنط الكتابة. فالبنط الغليظ الذي يستخدمه الرّاوي الأنا العائد على فارح حاضر في نص الدفاتر حيث يحكي الرَّاوي وقائع الجرائم التي شارك فيها فارهو وعمليات سرقة الأعضاء. أما البنط المائل فهو يحمل خطاب فارح لكارل. والتحوّل من الأنا إلى الأنت يحوّل السرد من الصيغة الغنائية إلى الدرامية، وهو أشبه بأسئلة مفتوحة، عن الأوطان المستباحة، وعن الدماء وقتل الطفولة. وفي نفس الوقت حسرة على الأحلام الضائعة. أما البنط الكتابي العادي فهو يسرد به الراوي الأنا عن ماضيه وماضي أصدقائه. ورغم ميل السرد إلى الغنائية في الكثير من الأحداث إلا أن هذه الغنائية تُكسَّر بحيل متعدّدة منها، تعدد الضمائر، وأيضا عبر الحوار الذي جاء قليلا إلا أنه حاضر. وقد مال السرد إلى الدرامية في الخطاب الموجه لكارل حيث بدا الخطاب أشبه بمحاكمة وإدانة لمن تسبب في هذه المأساة. وضع العالم أمام مسؤولياته تجاه الطفولة والحروب والدمار واللجوء وغيرها. ومن ثم تكثر الأسئلة التي بلا إجابة والتي يوجهها الراوي المخاطب، إلى المروي عليه. تقاطعات الزمن ظاهرة بجلاء في النص، فالزمن لا يمتد خطيّا إلى الأمام وفقا لزمن حدوثه أي كرونولوجيّا، وإنما الزمن يتوقف أثناء الروي. فالراوي يستخدم الوقفة الزمنية لسدّ ثغرات السرد. تصطبغ الرواية بسمات الواقع والعصر المنتَّجة فيه، حتى أنها لم تعد كما يقول ميشيل بوتور إن “الإحالات التي تأتي في الرواية عائدة على رموز الرواية ذاتها وليس الواقع”. حيث النزعة الاستهلاكية النفعية الرائجة بسبب سياسات السوق الحر، وهيمنة التسليع في العالم، حتى صارت العلاقات الإنسانية قائمة على المنفعة والمصلحة، لا فرق بين موقف موظف الإغاثة مع عائشة، وموقف منغستو مع أبناء أخته. ويمكن الإشارة إلى أن هذه النزعة كانت سببا لرواج مثل هذه العصابات التي تعمد إلى سرقة الأعضاء. وأيضا لشيوع بعض الرذائل في المجتمع على نحو ما فعل تاجر البقالة الذي أغوى صدّيق الطالب البنغالي لممارسة الرذيلة مع الأثرياء. أقسى صورة لإدانة هذا الواقع البغيض المستغل تجلّت في استسلام عائشة لموظف الإغاثة، فالبرود الذي قابلت به رغبته، كان بمثابة احتقار لهذه النزعة الاستهلاكية التي جعلت بأن لكل شيء ثمنا، بما فيه الأعمال الخيرية.
مشاركة :