الشارقة : محمدو لحبيب متى يُفْتح الباب لغريب؟ وما الذي يجعله يتحول إلى كائن أصيل وسط أرض لم تكن أرضه، ووسط ناسها، وتاريخهم، وحكاياتهم؟ إنه سؤال يطرحه المتلقي لعرض «فتيان لفريك» الذي قدمته جمعية المسرحيين الموريتانيين في إطار مشاركتها في النسخة الرابعة من مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي مساء أمس الأول.تدور حكاية العرض حول قبيلة موريتانية تعيش في الصحراء، وتترتب العلاقات بينها على أساس القرابة والمصالح المشتركة بين سادتها، فنجد شيخها يقرر أن يوافق على خطبة ابنته خديجة من أحد أبناء الأعيان في القبيلة، ومن دون أن يستشار الاثنان في ذلك، فذلك هو قانون القبيلة الصارم وعاداتها الصحراوية التي تغلق الباب أمام أي مصاهرات مع الغرباء.لكن الأمور تتغير ذات ليلة حين تستقبل القبيلة في حيها «لفريك» ضيفاً جريحاً، فتتعهده بالرعاية، مجسدة بذلك أخلاق الصحراء العربية التي تتميز بقيم المروءة والكرم وإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج، وبعد فترة يتماثل الضيف للشفاء، وبدلاً من أن يذهب إلى حال سبيله، يقرر البقاء هناك في «لفريك» من دون أن يعترض على ذلك أحد، ومن دون أن يسأله أحد عن هويته، فتلك عادات القبيلة وذلك ديدنها في التعامل مع كل الضيوف بلا استثناء. غير أن وجود الفتى الغريب يحرك الراكد من الأحداث، كما لو أنه حجر ألقي في بركة متجمدة، فيبدأ القيل والقال في نساء القبيلة وبعض الفضوليين من الرجال حول هويته، ومن أين جاء، ثم يتطور الهمس ليصبح إشاعة مغرضة بأنه يطمع في ابنة شيخ القبيلة وكبيرها، وأنها تحبه كذلك، وذلك ما يغضب خطيبها الذي يتباحث مع والدها حول الأمر، والذي يؤكد له أن خديجة لن تكون لغريب أبداً.تتطور الأحداث ليظهر الصراع بين خطيب خديجة والغريب، ويتدخل شيخ القبيلة بصرامة معلناً أنه يرفض أن يزوج ابنته للغريب، لكن حدثاً طارئاً غير كل تلك القوانين والعادات التي احتفظت بها القبيلة عبر كل أجيالها، فقد تعرضت القبيلة لغارة من طرف مجموعة من اللصوص واستطاعوا خطف خديجة، لكن الغريب لحق بهم، وقاتلهم، وأنقذ خديجة من بين براثنهم، وعاد بها إلى حيها، ليستقبله الحي بالزغاريد والتمجيد، وتكتمل الفرحة بموافقة والد خديجة على زواجها من الغريب عرفاناً بجميله وإقراراً بشجاعته وبطولته، ومن هنا تفتح أبواب الاستقرار في القبيلة على مصراعيها للغريب ويصبح واحداً منهم وذا مكانة رفيعة عندهم.العرض اعتمد في حكايته على اللغة العربية الفصحى، وعلى مزج الحوار النثري بالشعر الذي استدعى أمجاد القبيلة، وافتخار أفرادها بقيمهم الأخلاقية من الكرم والشجاعة والذود عن الحمى وغير ذلك من قيم مجتمعات الصحراء العربية المعروفة والمتوارثة منذ القدم، واستطاع مخرج العرض أن يقدم توليفة من الضوء والصوت والموسيقى والرقص والغناء التراثيين، والشعر، والفضاء الصحراوي الذي يجري فيه العرض بخيمه، وبقطيع من الإبل في الجوار، لينقل المشاهد إلى أجواء وعمق وعادات موريتانيا وصحرائها الشاسعة.مخرج العرض سولَيْ عبد الفتاح قال للخليج بعد انتهاء العرض إنهم اختاروا تقديمه بالفصحى لكي يصل إلى كل مشاهد عربي من دون عناء، وأنهم كذلك اعتمدوا حكاية معروفة ومتداولة في موريتانيا تعكس كل مميزات المجتمع الصحراوي هناك، واعتبر أن مشاركتهم هذه السنة توخت أن تقدم للمتلقي موريتانيا التي لا يعرفها.الشاعر محمد ولد إدومو الذي شارك مع سولي عبد الفتاح في كتابة النص، قال بدوره إن قيمة وجود الشعر في هذا العرض تأتي أساساً من كونه يعبر عن موريتانيا التي يأخذ فيها الشعر مكانة معتبرة في المجتمع، حيث يعد ميزة من مميزات الفتوة، وأوضح ولد إدومو أنه هو وعبد الفتاح كتبا النص بالتنسيق في إطار الفكرة الدرامية العامة له، بحيث جاء الجانب الشعري متناغماً مع مقتضيات الحكاية وتفاصيلها، ومكملاً لها، ويعكس من جهة أخرى قيم الافتخار بالأخلاق الحميدة التي دأبت عليها المجتمعات الصحراوية.الممثل الرئيس في العرض بابا ولد ميني قال إن «فتيان لفريك» لوحة موريتانية أظهرت تفاصيل البيئة الصحراوية وعاداتها، وأنها لا تختلف عما يتواجد في أي مكان وزمان عربيين.بعد العرض وفي إطار المسامرة الفكرية التي تناولته تعددت المداخلات حوله، وجاءت متباينة ما بين منتقد لبعض تفاصيله الإخراجية والحكائية، وما بين ممتدح لطريقته وأجوائه الفولكلورية.وركزت المداخلات على أن المسرحية نقلت تجربة العرض من داخل العلبة الإيطالية إلى فضاء المسرح الصحراوي، بحيث بدت الحركة وكأنها تتم على خشبة مسرح عادية، وكذلك توزيع الممثلين والإكسسوارات والديكورات، وأكدت أن المخرج أثبت وجود تجربة متميزة في عرضه، وحافظ على التقاليد المسرحية في الفضاء الصحراوي.ورأى البعض أن العرض عانى بروداً في الإيقاع، بحيث لم يستطع المخرج أن يحافظ على إيقاع المشاهد متسلسلاً، ولفتوا كذلك إلى أنه ثمة إرباك في توصيل المعلومة من خلال النص وعرضه.وذهب آخرون إلى أن النص لم يكن ناضجاً، وضم مفارقات وفجوات عديدة، وجعل المتلقي أمام علامات استفهام حول ترابط الحكاية فيه، وحول منطقية بعض الأحداث، وفي المجمل بدا النص مفككاً. بين الأصالة والمعاصرة في إطار الأنشطة المصاحبة للمهرجان، استضاف مجلس المسامرات ندوة فكرية تحت عنوان «المسرح الصحراوي بين الأصالة والمعاصرة»، أدارت جلستها الأولى، الباحثة اللبنانية سوزان علي، واستهل مداخلاتها الباحث المغربي حسن يوسفي، بورقة تحت عنوان «المسرح الصحراوي أصالة المفهوم ومعاصرة المنجز»، أشار فيها إلى أنه يمكن النظر إلى المهرجان كمقترح جمالي وفكري، في حالة بناء وصيرورة في السياق العربي، وليس تجربة مسرحية فحسب.وجاءت مداخلة الناقد والكاتب السوري هيثم الخواجة، تحت عنوان «المسرح والصحراء.. نحو مزواجة بين التراث والحداثة»، وتحدث فيها عن أهمية مبادرة اقتراح مهرجان تستلهم عروضه موضوعاتها وأساليبها من البيئة الصحراوية، وأشار إلى الأصداء التي رافقت الدورات الماضية.من جانبه، تطرق الباحث المغربي مصطفى رمضاني إلى ضرورة تقعيد مصطلح «المسرح الصحراوي»، مستفسراً عما إذا كان من الممكن إضفاء مشروعية ما على مفهوم اصطلاحي عبر إقامة نشاط فني. وركزت مداخلة الناقد الجزائري إدريس قرقورة على الإمكانيات التي يتيحها الفضاء الصحراوي، بوصفه مجتمعاً ونطاقاً جغرافياً، للمقاربة الفنية. وفي الجلسة الثانية، التي كرست لشهادات قدمها فنانون سبق أن شاركوا في المهرجان، تحدث الكاتب والممثل اللبناني جان قسيس عن جماليات الصحراء برمالها وكثبانها وسكونها، مشيراً إلى أن الخيال الإبداعي المسرحي ظل غافلاً عنها.وتطرق المخرج الأردني فراس الريموني إلى تجربته السابقة في إخراج مسرحية في المهرجان، وقال: «إن الكلام ليس كالفعل حين يتعلق الأمر بإخراج عمل مسرحي في هذا المهرجان، فتجربة الإخراج هنا صعبة ومعقدة ولكن جميلة».
مشاركة :