علي العوادي من المعلوم أن العلاقات فيما بين دول العالم تبنى على أساس المصالح القومية لتلك الدول ، وبما يعود بالمنفعة على شعوبها ، فإن كان استيراد السلع والمنتجات الأخرى يؤدي إلى إنفاق مبالغ مالية طائلة فإن التصدير لبعض المنتجات والخدمات إلى الدول المُستورَد منها يكون عاملا حاسما في التقليل من هدر العملة الصعبة ، وبالتالي معادلة كفة الميزان التجاري ، ومن البديهي أن تعزيز العلاقات التجارية فيما بين بلدين أو أكثر سيسهم في تعزيز العلاقات الثنائية الأخرى ، وعلى رأسها الجانب السياسي ، فتتكرر الزيارات الرسمية فيما بين سياسي تلك الدول ، بل وقد يحصل توافق في المواقف السياسية الحاسمة تجاه القضايا الدولية المهمة ، وبالطبع تسير العلاقات الدولية على هذا المسار المعروف للجميع ، ولا يخرج عنه سوى حالة واحدة قد تكون فريدة من نوعها ، أو حتى شاذة ، ألا وهي العلاقات بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية ، فقد بدأ (دونالد ترامب) حملته الانتخابية للرئاسة الأمريكية بمشاريع إستراتيجية عديدة ، منها تحسين العلاقات الثنائية مع العملاق النووي الروسي ، وما إن ارتقى إلى سدة الحكم حتى بدأ يتراجع عن ذلك الطموح تحت ضغوط المتشددين الديمقراطيين والجمهوريين معا ، والذين يرون أن روسيا هي العدو رقم 1 للولايات المتحدة ، فانطلق السهم الأول من صقور الحزب الديمقراطي تجاه (ترامب) و روسيا باتهام الأخيرة بأنها كانت سببا رئيسيا في فوزه وخسارة مرشحة الحزب الديمقراطي (هيلاري كلينتون) ، وبدأت اللجان التحقيقية مهمتها في تلك القضية التي أقضت مضجع الرئيس الأمريكي حتى أصبحت تهدد زعامته ، ولم تنته تلك الشكوك حتى يومنا هذا، الأمر الذي أجبر ترامب على اتخاذ قرارات خطيرة قد يكون بعضها دون إرادته تجاه موسكو، ومنها فرض عقوبات اقتصادية قاسية ستؤثر بشكل وآخر على الاقتصاد الروسي ، والسبب هو إرضاء أولئك الصقور وإبعاد الشبهة عنه ، وإن كان الرئيس الأمريكي مجبر على فعل ذلك فإن الساسة الأمريكيين المتشددين المعادين لروسيا نسوا أو تناسوا أن تحجيم العلاقات ومحاولة فرض حصار اقتصادي على روسيا سيكون مصيره الفشل ، وسيكون الضرر أكثر على المصالح الأمريكية ، فمازالت محركات الصواريخ الفضائية الأمريكية تستورد من روسيا ، بل أن وزارة الدفاع الأمريكية طلبت تمديد شراء تلك المحركات حتى عام 2028 بدلا من نهاية 2019 ، الأمر المهم الآخر هو أنه ومنذ فشل المكوكات الفضائية الأمريكية في التحليق إلى الفضاء الخارجي أُجبرت وكالة ناسا على توقيع عقود بملايين الدولارات مع وكالة الفضاء الروسية ، من أجل إيصال رواد الفضاء الأمريكان إلى محطة الفضاء الدولية - والتي تمتلك ناسا فيها حصة الأسد - عن طريق مركبات الفضاء الروسية ، ولم يقتصر التعاون الوثيق فيما بين الدولتين العظميين على الفضاء الخارجي ، بل امتد إلى الفضاء الأرضي، فالتيتانيوم الذي تنتجه المصانع الروسية يشكل عنصرا أساسيا في صناعات طائرات البوينك الأمريكية ، فهل سيشهر (فلاديمير بوتين) سلاحه المميت - بعيدا عن النووي وتبعاته - بوجه أمريكا؟ أم أنه سيعطي متسعا من الوقت لعدوه في العلن وصديقه في السر ( ترامب ) الذي فضل نتائج اجتماعهما (بوتين،ترامب) في بروكسل على نتائج اجتماع حلفائه في الناتو؟ ، من خلال قراءة متمعنة لإستراتيجية السياسة الدولية نرى - وبرأينا المتواضع - أن الرئيس الروسي (بوتين ) سيضع في الحسبان المصالح القومية لبلاده فوق أي اعتبار، وقد لا يكون مانع لدى الساسة الروس من أن تبقى العداوة مع أمريكا في الأرض مادامت الصداقة في الفضاء معها تدر على روسيا أرباحا طائلة ! ، قد يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم أن كاتب هذه السطور حلق برأيه بعيدا في شؤون لا ناقة لنا فيها ولا جمل ، وان ما نعانيه من مشاكل وهموم أثقلت كاهلنا أولى بالاهتمام ، والجواب سيكون: أن اغلب دول العالم - إن لم يكن جميعها- تسير في محورين اثنين ربما لا ثالث لهما ، وهما المحور الأمريكي والمحور الروسي ، وان فضلت دولة ما السير في اتجاه ثالث فلابد أن تغازل احد الطرفين ، وبعكسه ستكون - حتما - في عزلة دولية ، أو ضمن قائمة محور الشر الذي يهدد السلام العالمي ! ، فتراها - أي الدول - تتعلق بأطراف رداء هذا الطرف أو ذاك بل وتلتصق به (كالتصاق برادة المعادن بمغناطيس كبير) لتدور مجبرة حيثما دار ، وليس بالضرورة أن يكون هذا التمحور حبا (بالأخوين العملاقين) بل يكون لدى البعض طمعا في إبقاء السلطات الحاكمة تتربع على قمة الهرم السياسي إلى عقود تتلوها عقود ليوهموا الآخرين بأن الله لم يخلق لهم ندا من العباد في مشارق ومغارب البلاد ! ، أما الحكومات الأخرى التي تحكمها الديمقراطية ظاهريا فأنها ومن مبدأ : صديقي من يرد الشر عني ... ويرمي بالعداوة من رماني ، فإنها تستظل بمظلة الروس أو الأمريكان للحفاظ على شعوبها وأراضيها وصون سيادتها من أطماع الدول الأقوى ، ذلك يعني أننا لا يمكن أن نعيش بمعزل عن تأثيرات عالمنا المترامي الأطراف شئنا أم أبينا ، وان كان خير الأمور أوسطها فلا بد لنا من متابعة مجريات الأمور على الساحة الدولية ، ودراستها من قبل ذوي الاختصاص عن كثب ، لنأخذ الحيطة - قدر المستطاع - من تأثيرات سلبياتها ، ونوظف ايجابياتها في بيريسترويكا واعدة تعيد لبلدنا مكانته الحقيقية اقتصاديا وسياسيا بين دول العالم .
مشاركة :