يربطني بجامعة تمبل تاريخ طويل ومعقد. لذلك حرصت على متابعة قضية الحملة الشعواء التي استهدفت البروفيسور مارك لامونت هيل بسبب الخطاب الذي ألقاه على هامش الاحتفال الذي أقيم بمناسبة اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. لم يسبق لي أن التقيت الدكتور هيل من قبل لكنني قرأت خطابه بكل تأن وتمعن وتأثرت بحديثه عن انتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني ودفاعه المستميت عن حقوق الشعب الفلسطيني ومطالبته بالعدالة والمساواة لأولئك الذي يعيشون «ما بين النهر والبحر» في إسرائيل/ فلسطين. لقد استهدفت في إطار عملي من مثل هذه الحملات المعادية. لذلك لم أفاجأ بالحملة المسعورة التي استهدفت الدكتور هيل من أنصار إسرائيل المتشددين بعد أن طالب بالعدالة للفلسطينيين ودافع عن آدميتهم وحقوقهم الإنسانية. ولم أفاجأ أيضا بسعي البعض لتشويه كلامه والادعاء بأنه يهدد بمواقفه وجود الشعب الإسرائيلي برمته. تعرض الدكتور هيل لحملة من الانتقادات التي تتهمه بأنه «كاره لليهود ومعاد للسامية» كما اعتبر خطابه «خبيثا» وينطوي على «تحريض على أعمال العنف». لقد كنت أتوقع أن يتعرض الدكتور هيل لهذه الحملة الشعواء، غير أن أثار استغرابي وأزعجني حقا ما صدر عن بعض اليهود الأمريكيين من ردود أفعال اعتبروا من خلالها أن كلام الدكتور هيل ينطوي على «تهديد»، وانطلاقا من تجربتي الشخصية فقد كنت أتوقع مثل هذه العبارات التي تنطوي على «سخط مبطن». يجب أن أقول إنني فوجئت كثيرا بالسرعة التي اتخذت بها محطة السي إن إن الإخبارية قرارها بفصل محللها السياسي والإخباري الدكتور هيل كما أنني انزعجت كثيرا من مواقف التنديد والإدانة التي صدرت عن مجلس أمانة جامعة تمبل والذي اعتبر أن ما قاله الدكتور هيل يكرس لـ«خطاب الكراهية». وقد اعتبر المجلس أيضا أن رئيس الجامعة يدرس فصل الدكتور هيل والاستغناء عن خدماته. يبدو أن هؤلاء جميعا لم يقرأوا ما قاله الدكتور هيل أو أنهم قرأوه من خلال مواقف أولئك الذين بالغوا في ردود أفعالهم من أجل كتم أي مواقف منتقدة لإسرائيل. أصدر مجلس أمناء جامعة تمبل بعد التشاور بيانا عبر فيه عن «خيبة أمله وامتعاضه وشجبه» للخطاب الذي ألقاه الدكتور هيل في إحياء اليوم الذي اعتمدته منظمة الأمم المتحدة للتضامن مع الشعب الفلسطيني» مع الاعتراف بأنه من الصعب فصل البروفيسور هيل من عمله في الجامعة لأنه مثبت في منصبه. لقد أعجبت أكثر بالدكتور هيل الذي لم يأبه بردود الأفعال الغاضبة والمواقف الساخطة والانتقادات الواسعة وظل ثابتا على موقفه وقد حظي في ذلك بدعم الكثير من زملائه. أصدر الدكتور هيل ردا كتابيا جميلا على تلك الهجمات التي استهدفته وعبر عن رفضه الكامل لمعادة السامية وكرر انتقاداته للسياسات الإسرائيلية والتزامه بالحقوق الفلسطينية كما أنه اعتذر عن بعض الكلمات التي وردت في خطابه. صحيح أن البروفيسور هيل قد اتخذ موقفا قويا لأنني أتصور مدى الأذى الذي لحق به بسبب هذه التطورات. قبل خمسة عقود كنت طالب دكتوراه في قسم الأديان بجامعة تمبل وقد اصطدمت بنفس المواقف التي تنم عن انعدام التسامح وتعرضت للتهديد. لم أكن آنذاك أتمتع بأي حماية في الجامعة، على عكس البروفيسور هيل المثبت في وظيفته. في صيف 1967 وصلت لأول مرة إلى جامعة تمبل كيف أشرع في دراستي الجامعية العليا. استقبلت يوم وصولي إلى الجامعة بلافتة كبيرة معلقة أمام دار الإخاء وقد كتب عليها بالأحرف الكبيرة: «إلى الأمام إسرائيل. اهزمي العرب». لم يبد أي مسؤول من إدارة الجامعة اعتراضه على محتوى تلك اللافتة والدليل على ذلك أنها ظلت في مكانها ولم تتم إزالتها. بعد مرور بضعة أعوام كنت أخطب في أحد التجمعات المناهضة للحرب الفيتنامية عندما صرخ أحدهم في وجهي قائلا: «لماذا يسمح للعرب بالتحدث؟». بعد وقت قصير وصلتني في شقتي ورقة كتب عليها «أيها الكلب العربي، ستموت إذا وضعت رجلك مرة أخرى في الجامعة». أبلغت إدارة الجامعة والشرطة الموجودة هناك بفحوى تلك الرسالة التي تنطوي على تهديد صريح غير أنني فوجئت بسلبية ردود أفعالهم حيث أنهم اكتفوا بالقول «أطفال لن يتغيروا». بعد مرور بضعة أيام حاولت مجموعة من نشطاء رابطة الدفاع عن اليهود اقتحام الصف الذي كنت أدرس فيه - لم يكن يوجد أي شرطي لحمايتي واعتقال المتورطين في تلك الحادثة. من حسن الحظ أن مجموعة تضم أربعة طلاب من الأمريكيين الأفارقة، الذين كنت أدرسهم قد هبوا لحمايتي والدفاع عني ومواجهة المعتدين الذي تراجعوا يجرون أذيال الخيبة. لقد انطوت تلك الأحداث على تهديد صريح لحياتي، لكن ما تعرضت له سنة 1971 كان ينطوي على تهديد مختلف، وذلك بعد أن كتبت عدة مقالات نشرت في صحيفة «فيلادلفيا تربيون». في صيف العالم 1971. سافرت إلى لبنان على أساس منحة جامعية من أجل إجراء مقابلات مع اللاجئين الفلسطينيين في إطار رسالة الدكتوراه التي كنت أعدها. عندما عدت إلى فيلادلفيا قررت أن أستعرض تجربتي في لبنان وقد عرضت أمام الحضور مقتطفات من الملاحظات التي حولتها بعد ذلك إلى سلسلة من الأعمدة الصحفية التي اخترت لها عنوان «ثلاثة أيام في فلسطين». في تلك السلسلة من المقالات رويت قصص أولئك الناس الذين التقيتهم ونقلت ما يتذكرونه عن طردهم وتشريدهم من منازلهم وأرضهم كما تحدثت بإسهاب عن تفاصيل حياتهم مع عائلاتهم في المخيمات وعبرت عن رغبتهم الكبيرة في العودة إلى ديارهم ومرابعهم (لقد أطلعني الكثير منهم على ما يحتفظون به من صور للمنازل التي هُجِّروا منها ومفاتيح بيوتهم التي لا يزالون يحتفظون بها حتى اليوم). لقد سعدت كثيرا بردود الأفعال الأولية على تلك المقالات المتسلسلة من قراء صحيفة فيلادلفيا تربيون غير أنها صدمت بعد بضعة أسابيع عندما نشر مدير قسم البحوث الأكاديمية في جامعة تمبل رسالة في فيلادلفيا تربيون يندد فيها بالعمل الذي أقوم به، مستخدما لغة عنيفة حيث إنه وصفني بأنني «من البلشفيين الجدد والنازيين الجدد والمعادين للسامية». لقد قرأت تلك الرسالة الفظة التي سعى كاتبها من خلالها إلى أن ينأى بالجامعة عن كتاباتي. عندها أحسست أن مسيرتي الأكاديمية قد تنتهي لكن من حسن الحظ أن ذلك لم يحدث حيث إن مستشاري الدكتور إسماعيل الفاروقي قد انبرى للدفاع عني. أمضيت بعدها سنة كاملة في جامعة بنسلفانيا في إطار رسالة الدكتوراه التي كنت أعدها ثم عدت إلى جامعة تمبل مرة أخرى حيث أنهيت بحثي لأنال درجة الدكتوراه سنة 1975. لقد شعرت بنشوة كبيرة بعد ثلاثة عقود بعد أن منحتني كلية الفنون الليبرالية صفة الزميل المتميز من قدماء الطلاب تقديرا لأعمالي. انطلاقا من هذا التاريخ الشخصي الذي عشته فإنني أفهم جيدا التجربة المريرة التي مر بها الدكتور مارك لامونت هيل عندما استهدفته تلك الحملة الشعواء من الانتقادات من دون أن تدافع عنه إدارة جامعته. لست أدري كيف يمكن للانتقادات التي وجهها الدكتور هيل للسياسات الإسرائيلية أن تمثل تهديدا أو دعوته إلى تكريس المساواة والعدالة للجميع في مجتمع يمتد إلى «ما بين النهر والبحر». فقد جاءت كلمات الدكتور هيل لتردد مواقف نشطاء حقوق الإنسان الإسرائيليين الشجعان والذين وجدوا أنفسهم أيضا مهددين في حياتهم في البيئة الإسرائيلية الحالية التي تزداد تطرفا وقمعا. سيأتي يوم تدرك فيه جامعة تمبل تلك الكلمات التي قالها البروفيسور مارك لامونت هيل وتشعر عندها بحرج كبير لأنها تخاذلت ولم تدافع عنه في وجه تلك الحملات والهجمات. ستدرك الجامعة يومها أن البروفيسور هيل كان محقا وشجاعا عندما صدح بتلك الكلمات مدافعا عن حقوق الإنسان وداعيا إلى تكريس المساواة والعدالة للفلسطينيين والإسرائيليين الذين يعيشون «ما بين النهر والبحر». آمل ألا تدرك الجامعة خطأها وتعتذر بعد ثلاثة عقود من الآن. فهو جدير بالاعتذار الآن. { رئيس المعهد العربي الأمريكي
مشاركة :