الهجرة.. ليست دائماً الحلّ!

  • 12/18/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لا يمكن أن تكون الغربة أحنّ على الإنسان أكثر من بلده الأم، مهما بدت قوانينها جذابة وفتحت له أحضانها أو بدا مجتمعها في منتهى الرقي والحضارة، ستظل بلده هي الأم التي تفتح له ذراعيها وإن قسا عليها أو قست عليه، بل سيأتي يوم تكشّر فيه الغربة عن أنيابها في محاولة لافتراس القيم والمبادئ، وربما تنجح في ابتزازه ليفعل أي شيء يبقيه على أرضها ويصبح جزءاً من نسيجها، الأمر الذي لا بد أن يقدم له تضحيات وتنازلات. نتفهم مسألة هروب مواطني بعض الدول التي تشتعل الحروب داخلها حالياً، ونتفهم أسباب نزوح كثير من الأسر التي تحاول إنقاذ ما تبقى من سلالتها من الفناء، ولكن الأمر غير المقنع والذي لا نفهمه ظاهرة هجرة شباب الوطن العربي لأوروبا وأميركا، بحجة عدم وجود وظائف وانتشار البطالة في بلادهم أو ركود الاقتصاد، فيهاجرون للبحث عن فرص وظيفية أفضل تتناسب مع تخصصاتهم الجامعية، وهم من الأساس لم يصبروا للإسهام في رفع أو إنقاذ اقتصاد بلادهم، والمأساة حين يصلون لبلد المهجر يقبلون بالعمل في وظائف صعبة ومتواضعة، تستغرق ساعات عملٍ طويلة وأجورٍ مُنخفضة كانوا لا يرضون بها في بلادهم الأم، ليتركوا أوطانهم وراءهم تلعب بها الرياح وتبعثرها العواصف من دون حركة تنموية تتجدد على أيدي أبنائها، بل تحت وطأة الفساد والعصابات والتيارات، معتقدين دائماً أن الهجرة هي الحل. بعد أن وصل عدد المهاجرين في العالم إلى أكثر من 250 مليون شخص، توصل أعضاء الأمم المتحدة، والبالغ عددهم 193 عضواً، باستثناء الولايات المتحدة، على إيجاد حلول عملية للحد من هذا التدفق، فوضعوا اتفاقاً سموّه «الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية» والذي حدد 23 هدفاً لفتح باب الهجرة القانونية والآمنة، وتم اعتماده من قبل أكثر من 150 حكومة في اجتماع الأمم المتحدة الذي انعقد مطلع هذا الشهر في مدينة مراكش المغربية، وأوضحت ممثلة الأمم المتحدة الخاصة للهجرة الدولية أن الاتفاق ليس إلزامياً من الناحية القانونية، لكن يقدم خطوطاً إرشادية مفيدة للدول التي تواجه الهجرة. وعلى رغم كل تلك المحاولات لتنظيم الهجرة، أعلنت ست دول في الاتحاد الأوروبي رفضها الاتفاق، خشية من أن يُؤخذ بشكل عكسي ويتسبب في زيادة أعداد الهجرة. الأمر المتناقض، كان من ضمن مبادئ الاتفاق حماية حقوق الإنسان، خاصة تلك المتعلقة بالأطفال، بمساعدة البلدان على تحسين عمليات إدماج المهاجرين بالسكان الأصليين، بدلاً من أن يركز الاتفاق على إيجاد حلول دائمة وغير مؤقتة بالعمل مع حكومات تلك الدول والمطالبة بتحسين أوضاع الناس في بلدانهم الأم لتعزيز الانتماء، بدلاً من حالة الفوضى ونشوء الأطفال في بيئات أجنبية كشفت عن عنصريتها ودفع ثمنها الأطفال. كما أن أغلب الدول الأوروبية بدأت فعلاً تكشر عن أنيابها، فعلى سبيل المثال أبدى الرئيس الفرنسي استياءه حين توعد جميع الأجانب المقيمين في فرنسا بشكل غير شرعي ويسببون مشكلات ويرتكبون جنحاً، بأن الحكومة الفرنسية ستتخذ إجراءات أكثر قساوة وسيتم طردهم خارج حدود فرنسا، وطلب الرئيس الفرنسي من وزير الداخلية عقد اتفاقات مع دول المهاجرين الأصلية لإعادتهم إلى بلادهم، بحيث أصبحت فرنسا لا تحتمل مزيداً من المهاجرين. وفقدت ألمانيا لياقتها السياسية أيضاً في إظهار مزيد من التسامح أمام نسبة الجريمة والمشكلات التي ارتفعت في مجتمعها بسبب الغرباء، ورأت أنها لا تحتاج لأن تُظهر أي نوع من الإنسانية أمام انتهاك الأجانب تقاليدها، ولن تسمح لهم بالإفلات من العقاب المنصوص عليه في قانونها الجنائي، ولن تكترث إن اتهمها العالم بالقسوة بإعادة المهاجرين إلى بلادهم، بعد أن كانت تتبع سياسة «الأحضان المفتوحة» في بداية أزمة المهاجرين واستقبلت الآلاف منهم، إلى أن نفدت طاقتها القصوى للاحتمال، بعد أن تكرر انتهاك بعض المهاجرين قوانين البلد، فأصبحت تُغري المهاجرين بالمال لتشجعهم على الرحيل، إذ صرح وزير الداخلية الألماني على وسائل الإعلام بتوفير مبالغ إضافية لأولئك الذين يرغبون في مغادرة ألمانيا طواعية، فإضافة إلى مبلغ 1200 يورو، التي تم عرضها في السابق، تم عرض 1000 يورو أخرى من الموازنة الفيديرالية لكل «مغادر»، يوقع على تعهد بعدم القدوم إلى ألمانيا كلاجئ أو مهاجر مرة ثانية، بل سيكون مرحباً به كسائح فقط، ولأن السلطات الألمانية لا تتوقع أن يشجع هذا المبلغ إلا عدداً قليلاً جداً من المهاجرين لمغادرة ألمانيا «المترفة» والعودة إلى البلاد التي هربوا منها، أصبحت تبحث عن أي عروض مغرية لتزحزحهم من أراضيها، لدرجة وصلت فيها بالتعهد بدفع إيجار منزل للمهاجر العائد طوال العام الأول لعودته! من حق كل فرد أن يسعى في كل مكان للبحث عن حياةٍ أفضل، ولكن حين يهاجر ثلاثة أرباع الشباب من دولة واحدة ليُعمروا الدول الأوروبية مثلاً، فمن الذي سيُعمر أوطانهم؟ المال الذي يعتقدون بأنهم يضخّونه في بلادهم لن يرفع الاقتصاد بمفرده من دون أيدٍ عاملة تبني، الهجرة ليست دائماً هي الحل، فالهروب من مواجهة الواقع لا يمكن أن يُحسن ظروف الحياة أو يبني المستقبل. لا تعمّر الأوطان إلا بأيدي أبنائها، ومهما ابتعد الإنسان عن وطنه سيشدّه الحنين لأرضه يوماً، وإن كابر في إخفاء مشاعره. * كاتبة سعودية.

مشاركة :