الجمود يضع اللغة العربية على هامش الثقافات العالمية

  • 12/19/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

رغم الزاد المعرفي الكبير للغة العربية، تبدو اليوم أمام مفترق طرق لمواجهة إشكاليات متعددة عصفت بمكانتها المرموقة أمام لغات أخرى انتعشت بزخمها الفكري والإبداعي. وشكل الاحتفاء العالمي بالعربية في 18 ديسمبر من كل سنة مناسبة لطرح هذه الإشكاليات التي تعيق للغة ثرية كالعربية رواجا عالميا أكثر، ويمثل الرفع من جودة الترجمة وكسر حالة الجمود الفكري الطاغي على المجتمعات العربية عنق الزجاجة لخروج لغة الضاد من كبوتها. القاهرة – أضحت اللغة العربية أمام تحديات معقدة بسبب ما تواجهه من تراجع مكانتها العالمية، مع صعود لغات أخرى أكثر توهجا بإنتاجها الغزير وتعدد مكونات إبداعها، ما وضع العربية أمام صعوبات متعددة أهمها قدرتها على مواكبة مصطلحات العصر والتطور للخروج من شرنقتها المتجمدة. وكان احتفاء العالم باليوم العالمي للغة العربية، الثلاثاء الموافق لـ18 ديسمبر من كل عام والذي شهد إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية، ولغات العمل في الأمم المتحدة، مناسبة لطرح العقبات التي تعيق لغة ثرية كالعربية من الانتشار بصفة أكبر عالميا ومنافسة بقية اللغات الحية الأخرى. واستغلت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) الاحتفال العالمي بالعربية لتجديد الدعوة إلى ضرورة التوازن بين اللغات الرسمية الست، أي الإنكليزية والعربية والصينية والإسبانية والفرنسية ‏والروسية. وقالت أودري أزولاي المديرة العامة لليونسكو ضمن رسالتها في هذه المناسبة إن “اللغة العربية كانت ومازالت سبيلا لنقل المعارف في مختلف ميادين المعرفة ومنها الطب والرياضيات والفلسفة والتاريخ وعلم الفلك”.وأشار الناقد السعودي سعد البازعي لـ”العرب” إلى أن “الاحتفاء باللغة العربية يحدث حين نجعلها لغة الاستعمال اليومي ونثري محتواها المعرفي والإبداعي بكل أنواعهما وليس أن نكتفي بالتغنى بأهميتها أو جمالها أو أمجادها”. وبدا جليا أن التراجع الملموس للعربية يعد أهم دوافعه رواج اللغة الإنكليزية كلغة العالم الأولى إذ تحوّل إتقانها إلى شرط للحصول على وظيفة مرموقة، في حين قاد الاستعمال المفرط للتكنولوجيا إلى تهميشها ولم تعد لغة مفضلة لدى الشباب من سكان منطقتها. وأجمع باحثون أن الجمود الذي تعاني منه اللغة العربية على مستوى تطور المصطلحات وغياب الأفكار الداعمة لترويج الثقافة العربية وترجمتها إلى لغات عدة يضعها على هامش الترجمات الأدبية والمعرفية والسياسية التي تشهد رواجا عالميا إثر الغزو الذي تمارسه الثقافات الروسية والصينية واليابانية لدعم تأثيرها السياسي الصاعد.وفتح الاحتفال الذي نظمه مركز اللغات والترجمة بجامعة القاهرة، مساء الاثنين، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، الباب أمام دراسة أسباب تدهور الترجمة من اللغة العربية وإليها، وكان ذلك بمثابة العنوان الرئيسي لندوة، شارك فيها عدد من المترجمين الشباب، في حضور أساتذة الترجمة في جامعات مصرية مختلفة، وبعض العاملين بالمركز القومي للترجمة التابع لوزارة الثقافة. دار سجال بين عدد من الحضور حول أسباب جمود اللغة العربية، وانقسموا بين مدافع عنها باعتبارها أم اللغات المختلفة وجرى اشتقاق آلاف المصطلحات الأجنبية منها، ما جعلها قادرة على استيعاب لغات أخرى، ومن رأى أن الجمود الذي تواجهه وعدم تطور المصطلحات، مقارنة باللغة الإنكليزية، يفرز العديد من الكلمات المركبة التي تصعب ترجمتها في شكل جملة عربية قصيرة. وقال سليمان العطار، أستاذ الأدب الأندلسي بجامعة القاهرة، إن أي لغة تعد انعكاسا لحضارة المتكلمين بها، وفي أوقات ازدهار الحضارة العربية حققت اللغة انتشارا عالميا، غير أن التدهور الثقافي الذي أصاب المجتمعات المتحدثة بها انعكس عليها، وأصبحت أسيرة المصطلحات القديمة التي ظهرت بها من دون تجديد، وكذلك الأمر بالنسبة للنحو الذي ظلت قواعده ثابتة بالرغم من تطور مستويات استعمال اللغة. ومن ضمن كبوات اللغة العربية عدم قدرتها على التطور مع تغيرات العصر وظهور عشرات الأشياء والأماكن والمرافق التي تمثل جزءا أساسيا من حياة البشر اليومية. ورغم أن لها مصطلحات بلغات عديدة، ولكن ليس هناك ما يوازيها في العربية. ويرى خبراء في اللغة أن العربية أصبحت تابعة، وتسير خلف لغات أخرى خاصة اللاتينية، وتستعير منها العشرات من الكلمات والمصطلحات بعد أن عجزت عن إيجاد بديل من قلب الكلمات العربية الثرية. وظهر ذلك مع كلمات تطلق على الاختراعات الحديثة مثل “كمبيوتر وأدابتر وسي دي وبرينتر” وغيرها من المصطلحات التي ترك ناطقو العربية معانيها المشابهة في لغتهم واستساغوا الأجنبي منها. وأضاف العطار، الذي ترجم العشرات من الأعمال الثقافية اللاتينية أشهرها روايات الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، أن مستويات اللغة العربية الأساسية وهي (الكلام والكتابة والقراءة والاستماع)، أدخلت عليها تعديلات مع التطورات التكنولوجية الحديثة والتي ترتبط باللغة والصورة وتستخدمها معظم وسائل الإعلام، ويمكن إطلاق اسم المستوى الإعلامي عليها، وتتداخل فيه بعض المصطلحات العامية التي أضحت مستخدمة على نطاق واسع. ويرى العطار أن احتقار النخب الثقافية في العالم العربي للغة العامية وعدم تطويعها لصالح تجديد العربية الفصحى يبدو “احتقارا للذات”.استفادت لغات أجنبية عدة، وعلى رأسها الإسبانية، من المصطلحات العامية إلى درجة أن هناك 20 ألف مصطلح إسباني مشتق منها، ويؤثر عدم استغلال هذه المصطلحات في قدرة العرب ا على لتعبير عن أنفسهم. ويذهب البعض للتأكيد على أن انتشار لغة الصحافة ساهم في تطوير اللغة الإنكليزية، ما اضطر العديد من المترجمين إلى محاولة تطويع اللغة العربية للتعبير عن الأفكار الحديثة في نظيرتها الإنكليزية وغيرها من اللغات الأخرى، في حين لم يواجه المترجمون من العربية إلى لغات أخرى هذه المشكلات، بسبب ما يمكن تسميته بـ”الجمود اللغوي” الذي أصاب اللغة العربية منذ القرن الثاني الهجري. وأفرز الجدل بين رافضي دمج العامية والفصحى، والفريق الذي يراه ضرورة للتطور، رأيا متوازنا يدعو إلى اختيار كلمات عامية معينة بصورة لا تخل بتكوين الجملة العربية أو قواعدها النحوية، وتمثل إضافة حقيقية لثراء اللغة ومصطلحاتها. وأشارت هبة عارف، أستاذة اللغة الإنكليزية بجامعة القاهرة، إلى أن توظيف المصطلحات الحديثة لصالح ما هو قديم أساس تطور اللغة ومرونتها، وهو ما يحدث حاليا في الكثير من اللغات الأجنبية لدى العالم الغربي، وينظر العالم إلى اللغات التي يتحدث بها باعتبارها مرآة التطور، لأن حركة الأعمال الثقافية تلحق بها وتنعكس على اللغة. وأضافت في تصريحات لـ”العرب”، أن اللغة العربية في يومها العالمي تعاني أزمة كبيرة من تدني مستوى الترجمة إليها، بسبب اتساع الفجوة بين تراكيبها التراثية التي تميل إلى استخدام الجمل الاسمية والفعلية والربط ما بين الجمل والتكرار والبسط والإيضاح والتجريد في مقابل اعتماد الإنكليزية بشكل أكبر على الكلمات المركبة. وبرهنت شاهندا عزت رئيسة مركز اللغات والترجمة، على ذلك بتأكيدها أن انتشار المئات من المصطلحات الحديثة في اللغة الإنكليزية لم تعد موجودة في معاجم الترجمة ما يدفع المترجمين إلى السير باتجاه الترجمات الدلالية وليس اللفظية، ويتطلب ذلك إلماما كاملا بالمعتقدات الثقافية للمؤلف والمعرفة القوية بالحضارات التي تكون منها عملية الترجمة. وهو ما تسبب في سوء مستوى الترجمة وأحيانا السقوط في أخطاء عدم القدرة على إيصال المعنى سواء إلى القارئ الأجنبي الذي يقرأ نصا مترجما من العربية أو القارئ العربي الذي لا يتواءم مع ما هو مترجم حرفيا من نص أجنبي.شغل الحديث عن أوضاع الترجمات العربية إلى اللغات الأخرى الحيز الأكبر من النقاشات أثناء الندوة التي عقدت في القاهرة، في ظل انخفاض حركة ترجمة الأعمال الثقافية والسياسية والعلمية العربية إلى اللغات الأخرى. وعزا الرأي الأول ذلك إلى تدني مستوى الأعمال المنتجة في الدول العربية، ما يجعل الإقبال عليها ضعيفا من الثقافات الأخرى، فيما أرجع الرأي الآخر ذلك إلى غياب تنسيق الجهود للترويج إلى المحتويات العربية الجيدة والتي تستحق الترجمة ومن الممكن أن تلقى صدى لدى المجتمعات الموزعة فيها. وبرز رأي ثالث ارتكز على نظرية المؤامرة، لافتا إلى أن التدهور يعود إلى تدخل الأيديولوجيات الغربية في التأثير على عملية الترجمة من اللغة العربية، وهو واضح من خلال تركيز غالبية الترجمات على توصيل صورة ذهنية معينة للشخص العربي الذي يركز على الاهتمام بالشهوات ويرتكن إلى الكسل ولا يهتم بالقراءة أو الإبداع، ما يجعل عددا كبيرا من الأعمال العربية غير مرغوب فيها خارجيا لصعوبة تروجيها وبيعها. اتفق أنور مغيث، رئيس المركز القومي للترجمة، على أن الآراء الثلاثة مجتمعة تعد أسبابا رئيسية لدرجة وصلت إلى أن الترجمة من الإنكليزية إلى العربية وحدها توازي الترجمة من العربية إلى كل لغات العالم، لافتا إلى أن مركزه يترجم كل عام حوالي 200 كتاب من مختلف اللغات، في الوقت الذي يعجز فيه عن الترويج للمنتجات الثقافية العربية بسبب عدم وجود إمكانيات مادية. وأوضح لـ”العرب” أن “غالبية المؤسسات الثقافية العربية ترتكن عن عمد إلى ترك الحرية إلى الشعوب المحيطة لترجمة ما تحتاجه من أعمال، كما كان الوضع سابقا حينما لجأ العرب إلى ترجمة كتب العلوم الإنسانية والفلسفية والأدبية وغيرها لمواكبة التطورات الحديثة، وهو أمر غير معمول به من قبل أي من منظمات ثقافية غربية تقدم عروضا تجذب المؤلفين ومراكز الترجمة العربية نحو الأعمال التي تنتجها”. وجاء الغزو الثقافي الصيني والياباني والروسي بعد أن أدركت المؤسسات الثقافية في تلك البلدان أن تأثيرها السياسي لا يوازيه تأثير ثقافي يدعمه، وباتت مراكز الترجمة التابعة لها مليئة بالأعمال الثقافية التي تعكس صورتها الحضارية بعيدا عن الصورة التي يرسمها الغرب لها، والأمر ذاته بالنسبة للدول الأوروبية التي لا تترك المسألة بشكل عفوي وتتدخل لنشر ثقافتها عبر دعم مراكز الترجمة العربية ماليا وثقافيا، وذلك ما ينبغي على الهيئات العربية الاتجاه له حاليا. وأكد مغيث أن قيمة الأعمال العربية المنتجة أقل كثيرا من نسبة الإقدام عليها، غير أن الناشرين الغربيين يخشون من المخاطرة بترجمة تلك الأعمال لصعوبة الإقدام عليها، ولا بدّ من دعمهم ماليا لتقليل الخسائر وجذب المترجمين إلى الأعمال العربية عبر توفير مبالغ إضافية تحفيزية، كي يقبلوا عليها، مقابل التدخل في نشر نوعية معينة من الأعمال التي تدعم اللغة العربية وتسوّق بشكل جيد للحضارة المنتمية لها.تتمثل أهم تحديات الترجمة وتنمية مواردها في غياب اهتمام الجهات الدبلوماسية التي يكون من ضمن أدوارها الترويج الثقافي لحضارتها، بما يساهم في دعم جهودها الإقليمية، وغياب تمويل عدد كبير من مراكز الترجمة، بحيث تشجعها على ترجمة الكتب العربية المؤثرة أو التواصل مع المراكز الثقافية لتسويقها. وتحوي الكثير من المخازن العربية أعدادا هائلة من الكتب العربية المترجمة إلى الإنكليزية نتيجة للفشل في تسويقها بالبلدان المستهدفة، ما يعني أن المشكلة لا تكمن فقط في الترجمة بقدر ارتباطها بالإقبال عليها، ما يتطلب توفير تعاون ثقافي ومالي بشكل أكبر مع جهات النشر الغربية. تتركز أكثر أزمات الترجمة في العالم العربي في غياب الكوادر الشابة من المترجمين القادرين على قيادة ثورة تصحيح في توفيق الترجمة مع تحديات اللغة. ويرتبط ذلك بإعداد المترجمين الشباب بشكل علمي وتشجيعهم على الترجمة من العربية، كما أن الإقدام على الترجمة من الإنكليزية أو اللغات الأخرى سببه الدعم الذي تقدمه هذه الهيئات للمؤلفين في الخارج، وهو ما لا يحدث من المؤسسات الثقافية العربية. ويقول خبراء إن صناعة جيل جديد من المترجمين المؤهلين يحتاج إلى تحفيزهم ماديا ومعنويا من أجل استقطابهم، لأن مهنة الترجمة ليست محل تقدير كاف ولا تجذب الشباب للعمل فيها، وأصبح أغلب العاملين فيها غير مؤهلين وليسوا على درجة كافية لمنافسة المنتج الأدبي والعلمي في الغرب. وأشار أنور مغيث، رئيس المركز القومي للترجمة إلى أن “المؤسسات الثقافية العربية بدأت مؤخرا في التفكير لحلول جذرية تدعم الترجمة من العربية، وعلى رأسها البحث في إنشاء صندوق ثقافي (مصري) لدعم الأعمال المترجمة، وفتح الباب لنقاشات متعددة داخل جامعة الدول العربية لتكثيف التعاون في نشر الأعمال المترجمة، بحيث ترعى الجامعة المؤلفين وتساهم في نشر الأعمال عبر المراكز الثقافية للدول الأعضاء”.

مشاركة :