مرت شهور على تنظيم مهرجان أيام قرطاج الشعرية بتونس، ولكن لم نر على غرار التظاهرات الكبرى تقييما متوازنا لهذه التظاهرة التي أثارت جدلا واسعا في تونس وخارجها، ليس آخرها رفض الشاعر فرناندو روندون رئيس مهرجان ميديلين العالمي للشعر المشاركة في هذه التظاهرة، التي شهدت الكثير من الارتباك وهو ما يبينه عدد من الشعراء في متن المقال. إن التظاهرات الأدبية تتحرك في مسارين متوازيين دائما، بين منتجي الأدب من كتاب والجماهير من متابعين، حيث يكون هدفها أن تشكل جسرا بينهما، جسر تتخلله مصفاة، حيث تقترح التظاهرات على الجماهير رؤيتها وتختار تجارب معينة لتقديمها، وفق ثيمة أو تحت شعار أو ما شاء المنظمون. هنا يمكننا أن نقرّ أن التظاهرة الأدبية لا يتوقف دورها عند لم شمل منتج الأدب ومستهلكه، بل هي أبعد من ذلك بكثير، إذ تمثل رؤية نقدية وفكرية ومشروعا متكاملا. من التظاهرات الأدبية التي رحب بها أهل الأدب في تونس وخارجها مهرجان “أيام قرطاج الشعرية”، التي قدمت في مارس الماضي دورتها التأسيسية، بحشد كبير من الشعراء بالمئات، وتمويل جيد من وزارة الثقافة التونسية التي تنظم هذه التظاهرة للمرة الأولى، اقتداء بأيام قرطاج للمسرح وأيام قرطاج للسينما. لكن المتابع لهذه التظاهرة سيرى عمق الهوة بين أيام المسرح والسينما وأيام الشعر، فإن انتصرت أيام السينما للسينما الأفريقية والعربية والسينما ذات البعد النضالي، وإن فعّلت أيام المسرح نفس التوجه تقريبا، فإن أيام الشعر كانت بلا مذاق، هكذا حشد من الشعراء يقرأون قصائدهم، في قاعات شبه خاوية، يستمع الشعراء إلى قصائد بعضهم، ينالون مكافآتهم، وانتهى العرس وأغلقت الستائر، دون تقييم حقيقي، ما يدفعنا إلى التساؤل: ما هو مشروع أيام قرطاج الشعرية؟ وما هي إضافتها للشعر التونسي والعربي؟ علما وأن الساحة الشعرية التونسية شهدت تزامنا مع الثورة حراكا شعريا مختلفا لاقى ترحيبا عربيا وعالميا، من خلال تجارب شعرية جديدة على الذوق التونسي، سواء ما قدمه الشباب أو ما قدمه شعراء آخرون كآدم فتحي بكتابه “نافخ الزجاج الأعمى”.كل ما نرجوه لهذه التظاهرة هو استمرارها والالتفاف حولها، لكن ليس بشكلها الذي ظهرت به في دورتها الأولى، التي عانت من سوء تسيير فضيع، بدأ بتقسيم الشعراء بين صنف واحد في مدينة الثقافة وشعراء الجهات الذين يقرأون في جهاتهم، كما كان الإقبال عليها ضعيفا جراء التوجه العام للمسيرين الذين اختاروا أسماء تمثل ذائقتهم القديمة التي لا تتواءم مع الحراك الشعري المعاصر. ليست المشكلة في حشد أسماء، لكن لكل تظاهرة كما أسلفنا معاييرها ورؤيتها، وهو ما أبانته أيضا الأيام الشعرية برؤيتها الماضوية والتي لا تتناسب مطلقا مع واقع تونسي وعربي حالم بالحرية والتجديد ومحقق لهما على أرض الواقع. ثم إن اختيار مديرة للمهرجان تمثل اتحاد الكتاب التونسيين الذي كان في العهد السابق عصا النظام على رقاب الشعراء والكتاب، أمر محير فعلا، ولا شخصنة في الأمر، بل الأمر متعلق بالأداء والرؤية، كيف نريد التأسيس لواقع مغاير بنفس أساليب وعقلية سابقة ثارت ضدها مختلف الأطياف. وكل ما أسلفنا جعل من أيام قرطاج الشعرية تظاهرة فضفاضة وضربا من إهدار المال العام، منغلقة بين الجدران والشللية التي يحركها منطق الغنيمة، وكأن هذا المهرجان لم يحدث. في سؤالنا له حول مشروع أيام قرطاج يقول الشاعر سفيان رجب “لنتّفق أولا، أنّ مشروع الحداثة الشعرية في تونس، الذي بدأ أسئلته منذ حركة الطليعة، له خصوصيته التي يحاول طمسها بعض النقاد التقليديين بأكفان الموتى، ويحاولون إخماد أصواته الشعرية المتفرّدة التي افتكّت الاعتراف عربيا، لذلك فإنّ توظيف أجهزة الدولة في تهميش أيّ حركة شعرية مستقبلية لا يقلّ خطورة عن توظيفها في وسائل الفساد والرجعية الأخرى. لا فرق عندي الآن بين ماضويّ يحمل بندقية وبين ماضويّ يحمل قلماً، كلاهما عدوّ لدود للمستقبل”. ويضيف “في التظاهرات والمهرجانات الكثيرة التي نظمتها تونس، كسبت رهان المستقبل في أغلبها، في المسرح والسينما خاصة، وكنّا ننتظر تظاهرة شعرية تدعم المشهد الثقافي التونسي الطليعي، وجاءت هذه التظاهرة المتمثلة في فكرة أيام قرطاج الشعرية، والتي خصصت لها الدولة ميزانية مهمة، لكنّها كانت أقسى من الخيبة، وعادت بتونس شعريا مئة سنة إلى الوراء، على شكل العكاظيات القديمة، طلع علينا شعراء لا يزال بعضهم يقيم في بداية القرن العشرين، أصوات لا مشاريع لها ولا منجزا شعريا يرتقي بها إلى مرتبة حضورها في أيام قرطاج الشعرية”. ويشدد رجب أن “المسألة هنا ليست رؤيوية حتى لا يحتجّ علينا من برمج لحضورهم، وإنما هي في المقاييس التي تم بهاّ استدعاء الكثير من الشعراء الذين لا يمتلكون منجزا شعريا، فبأيّ مقياس تمّ استدعاؤهم وصرف منح لهم من المال العام؟”. كنّا كتبنا، وقلنا إنّ “الدورة الأولى من أيام قرطاج الشعرية، لم تخرج من دائرة اللوبيات، في التنظيم واقتراح الأسماء الشعرية، وسنسحب الأمر على عثرات الخطوات الأولى، لكننا نريد أن ننظر إلى المستقبل، ولا نخون رؤيتنا الشعرية، أطلب أن نذهب إلى الدورة الجديدة من أيام قرطاج الشعرية، بإدارة جديدة يكون لها إطلاع على المشهد الشعريّ التونسي الفاعل، وليس بجوقة الطبول الشعرية التي أثثت أيام قرطاج الشعرية الأولى، كما نطلب أن تنفتح هذه التظاهرة على المشاريع الشعرية الجديدة”. أمّا فيما يتعلق بجوائز المهرجان فيرى رجب أن حكاية الجوائز الأدبية بما فيها جائزة أيام قرطاج الشعرية لم تخرج من ثنائية “هات وخذ”، لافتا إلى أن سوابق التجاوزات في قوانين الجوائز الشعرية التونسية شاهدة على كلامه.ويعتبر الشاعر صبري الرحموني أنه يصعبُ الحديث عما لم يحدث أصلا. ويقول “في تقديري لم يكن هناك شيء اسمه الدورة التأسيسية لأيام قرطاج الشعرية، جُلُّ ما حدثَ هو هجوم ‘عصابات ثقافية’ معروفة على المال العام المرصود لإقامة هذه التظاهرة، الأمر بدا واضحا وجليًّا من مستوى أسماء الضيوف الأجانب ومحاولة التعميم الداخلي بإدراج أكثر عدد ممكن من الأسماء بمنطق ‘أطعم الفم فتستحي العين’، قاعات فارغة وأمسيات وهمية وتنظيم أقرب إلى الانتصاب الفوضوي”. ويضيف الرحموني “إذا أنزلنا مِسْبارًا إلى قاع اللغة ونحن نفكر في هذه الدورة التأسيسية فإن الكلمة الأكثر إشعاعا التي سنلتقطها هي كلمة ‘العار’، ورأس العار هنا هو اختيار وزير الثقافة للسيدة جميلة الماجري التي يعلم الجميع أنها كانت عصا بن علي على الكُتاب حين كانت تترأس اتحاد الكُتاب وإلى الآن مازال صوتها يوم 14 جانفي في التلفزة التونسية وهي تدافع عن السفاحين والشباب التونسي في ذات اللحظة يذبح في الشوارع، مازال صوتها يأتي مزمجرا إلى الآن. ثم تتفرع مسالك العار لتشمل كل من تعاون أو شارك معها في هذه التظاهرة”. ويختم الرحموني “إن تظاهرة استضافت المئات، ولكن الشعر كان هو الغائب الذي ينظر إليهم من بعيد وهم يطوفون في بركة العار كأوراق شجرة الجنكة. بحسرته الأزلية ينظر إليهم يرفع الأنخاب مُرددا كلام فرنسيس سكوت فيتزجيرالد: نخب المُستقبل الذي عاما بعد عامٍ يبتعد عنا أكثر”. أما الشاعر أنور اليزيدي فيرى أن فكرة المهرجان طيبة لكن التنفيذ سيئ. ويعود ذلك إلى انعدام رؤية أو تصور ثقافي يكون هدفه جعل قطاع الثقافة عموما قطاعا حيويا. وما لم يكن ذلك فإننا سنبقى دوما رهيني الارتجال والابتذال. رغم ذلك نحن مع تواصل هذه المبادرة على أن يشرف على هذه الأيام شخص من هذه الأيام.
مشاركة :