منحوتات أوغست رودان و «أوراقه»

  • 2/3/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يتحالف متحفا رودان في معرض «رودان: مختبر للإبداع»، وهو يكشف الأسرار الحرفيّة، ومكامن تقنيات النحات شبه الخفية، بخاصة التوثيقية (في حشود وأكوام من دراسات الرسم والنحت والمصبوبات والملصقات والأشلاء الآدمية). هي التقنيات التي صنعت مع عبقرية رودان النحتية ميكيل آنجلو الفن الفرنسي المعاصر. تقنيات لم يفلت من شباك حساسيتها وريادتها الإختراعية والإكتشافية أي نحات معاصر في عاصمة التشكيل ربما: من جياكوميتّي إلى سيزار عبوراً ببيكاسو ومايول، وصولاً حتى برانكوسي. يستمر العرض حتى نهاية ايلول (سبتمبر). الجزء الأول يعرض في محترفه الباريسي العريق الذي كان يعرف باسم «أوتيل بريون» قبل أن يتحول إلى المتحف المركزي الخاص به إبتداءً من 1918. أما الجزء الثاني فيفترش محترفه الذي شهد سنوات نضجه الأخيرة، وتوفي فيه عام 1917 وتحول من اسم عمارته الأصلية: «فيلا بريان»، في مودون الضيعة الملاصقة للعاصمة والتي أصبحت جزءاً منها اليوم. لذلك تتفوق تفاصيل العروض التوثيقية والأرشيفية (المكدسة بالمئات) في الثاني على الأول، والذي زُرعت منحوتاته في الحديقة (وقسم من «الشابيل») لأن الباقي في حالة ترميم. المهم أن المعرض الثنائي يدعونا إلى إعادة تأمل بانورامية لمئة وخمسين عملاً فنياً من الرسم والنحت والصب، فيقترب المجهر التّحليلي عمودياً من تجربته وخصائصها المعاشة بطريقة معمقة تكشف ما خفي حتى اليوم من أسرار صناعته الحرفية، هو نفسه كان يقول: «إبتدأت حرفياً أكثر مني فناناً». إذا كانت المدرسة «الإنطباعية» الفرنسية فتحت بوابة الحداثة والمعاصرة منذ نهاية القرن التاسع عشر، ممثلة في التّصوير بكوكبة من المواهب الرائدة (على رأسها كلود مونيه) فإن «إنطباعية» النحت كان يحتكرها في 1840 المعلم أوغست رودان (184 – 1917) ولا يتجاوز ذكر تلميذته (وموديله) كامي كلوديل السنوات الأخيرة، ولعلها كانت أقرب إلى هاوية نحته تذوب شخصية أعمالها في محترفه. وعلى رغم الضجة المفتعلة حول معرضها الراهن المتزامن مع معرض معلمها، فلم يقع التشويش على احتكار رودان لإنطباعية النحت. وذلك بنحت الضوء للمرة الأولى، وأكثر من ذلك اعتماده للمرة الأولى على ما يدعوه النقد خطأ «عدم الإكتمال» لأن اللوحة أو المنحوته التامة الإنجاز غير موجودة إلا في الاتجاهات الأكاديمية أو النّمطية، فحتى الكلاسيكي السابق لرودان وهو بورديل كان مقدمة لتثبيت هذه القيمة لدى وريثه رودان. أما «فكرة عدم الإكتمال» لدى الفنانين الإنطباعيين عموماً (بما فيهم الروائي جان بروست والمؤلف الموسيقي كلود دبوسي) ترجع ببساطة إلى اكتشافهم أن روح الأعمال التحضّيرية تتفوّق على العمل الأساسي، وذلك لما يعانق فكرهم من حركية ضوئية وتحولية حدسية تناظر ديمومة هنري برغسون وموجة هوكوساي رمزهم السديمي المتحول والمتخلق من ذاته. هو ما يفسر اختيار بعضهم لمحترفاتهم في مراكب مائية عائمة ابتداءً من مونيه وانتهاء بسينياك. يثبت معرض أشلاء وشظايا ورسوم رودان أنه وصل بهذه الفكرة حتى منتهاها. فرسومه السريعة الحدسية بالمائيات واللافي والحبر الصيني وأقلام الرصاص لا تقل عبقرية وقوة شخصية عن نحته. أما أصالة المعرض البانورامي المزدوج اليوم، فتقع في أنه يقتصر على أشلاء وشظايا وعناصر تفصيلية توثيقية غير مكتملة يستخدمها (مثل البوزل) كل مرة، من أرجل ورؤوس وجذوع أغلبها يعتمد على صب النماذج بالجص حتى تبدو آثار المادة البكر والقوالب والإزميل ظاهرة، ناهيك عن الحجم الهائل في التوثيق من طريق الرسم والصور الفوتوغرافية، بعضها يظهر أيضاً بأنه كان محاطاً بمساعدين (لا يقلون عن سبعة مساعدين) مما يعطي لمحترفه صورة ورشة المعلم الحرفي في عصر النّهضة الإيطالي. ولكن استشرافه للحداثة والمعاصرة لا يقتصر على منهجه الإنطباعي وإنما على طريقة زرع عناصره في فراغ تكوينات حرة. فأعماله الملحمية لا تحتاج عمارتها العامة وتكوينها إلى تحضيرات لأنها أنشئت بحد ذاتها بروح الفن الحدسي السريع، مما منحها الطابع اللحظي أو الوجودي الذي استمر لدى جياكوميتي. ثم إن اعتماده على لصق العناصر التشريحية المستقلّة قاده إلى صيغة صبّ الملصقات الآدمية بالبرونز والتي أثرت على سيزار وبيكاسو فرأس فكتور هيغو ملصق بكامله على جسده العاري، ثم إرتدى بعد ذلك لبوسه، هو التصوّر الحركي التحوّلي الموروث منذ عهد هرقليطس الذي كان يؤكد بأنه «لا يمكن أن يستحم الإنسان في النهر ذاته مرتين»، تبرز في عصر رودان مقولة الروائي ألكسندر دوماس حين يعاود ملاحظته التأملية: «العاصفة لا تضرب الوادي نفسه مرتين». قد تصيبه ولكن منطق المصادفة القدرية الحدسية لا يقبل مثل هذه «الديكارتية». دعونا نتأمل في معرض مصبوبة «المشّاء»: شخص فاقد اليدين يمشي بعبثية من دون رأس. هو الموضوع الأثير على نحت جياكوميتي رغم أنه في الأساس لا يتجاوز دراسة رودان لعزلة القدمين، مثلما فعل برأس فكتور هيغو، أما أشهر تماثيله وهو «المفكر» فهو جزء من تكوين ملحمي جماهيري عُرف «ببرجوازية كالي»، إشارة إلى نبلاء يساقون إلى الإعدام في حرب المئة عام في هذه المنطقة وكذلك تمثال «القبلة» فهو جزء آخر منها. في عام 1891 كان رودان قد بلغ خمسين عاماً أي ذروة نضجه النحتي، يُكلّف من جديد بنصب تكريمي عام للكاتب «بلزاك» (1799 - 1850) الذي مر على وفاته أكثر من أربعين عاماً، وذلك بطلب ملحّ من جمعية أقطاب الأدب (الثقافة)، وحتى يصل رودان إلى حقيقته الحية أو التمثال النابض بالحيوية المعاشة ساعده سكرتير الكاتب في العثور على شخص يشبهه بنسبة كبيرة (من مواطني منطقته في تورين)، هو سائق عمومي يكد طوال يومه لتأمين عيشه، فرض عليه رودان جلسات طويلة مرهقة من الرسم والنحّت والصب والتصوير الفوتوغرافي. وكعادته ألصق بعد فترة الرأس المستقل على الجسد العاري بالبطن المنتفخ المبالغ به قبل لفه بمعطف وأردية سميكة، استمر في العمل سبع سنوات بلا هوادة ليعرض في صالون 1898 وهو يمثل فضيحة كبرى لدى الأدباء بسبب تأثيره العجائبي القريب كما قيل من هيئة حيوان. ولم يصب التمثال بالبرونز (بسبب سوء فهمه) حتى عام 1926. هو ما يذكر بخيبات رودان منذ شبابه فقد رسب في مسابقة امتحان قبوله في «البوزار» للدراسة الفنية ثلاث مرات متعاقبة. سيجابه المشكلة مع نصب فكتور هيغو التكريمي الذي أنجز ليعرض في المعرض الشمولي العالمي 1900. وقبله النصب الملحمية «بوابة الجحيم» و «برجوازية كالي» و «الراحة الأزلية». لذلك أهدى هو نفسه ميراث المحترفين إلى الدولة عام 1916 قبل عام من وفاته.

مشاركة :