أستذكر في مطلع هذا المقال قول الشاعر: لا يعرف الشوق إلا من به ألم ولا الصبابة إلا من يعانيها ولي بذلك تجربة؛ إذ وأنا طفل صغير كنت أعيش في كنف حنان ورعاية جدتي، أم والدي، التي كانت عليها تفيض عليّ بالعطف والحب، حيث كنت أرقد بفراش مجاور لفراشها في غرب غرفة نومها الرئيسية. كانت ـــ رحمة الله عليها ـــ من خيرة النساء، تعيش عيشة راضية، ملؤها الهدوء والصفاء، وكانت تعكس مشاعرها هذه على كل من يلوذ بها من أبناء وأحفاد وغيره من الأقارب والجيران. إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم الذي علمت به بفقدان أصغر أبنائها الذي غاب برحلة سفر بحرية إلى الهند ولم يعد منها حتى يومنا هذا، وقد انقطعت اخباره ولم يعرف مصيره بعد منذ ذلك الحين، غياب ولدها عنها أدخلها في دوامة من الحس أفقدتها حياة الهدوء والسعادة التي كانت تتمتع بها وعكستها إلى حياة بؤس وحزن وشقاء. كنت وأنا طفل صغير أراقب ذلك التحوّل الذي طرأ على نفسية جدتي والذي أفقدها كثيراً من ملذات الحياة وقادها إلى طريق البؤس والحزن.. وكنت أستغرب ذلك منها، بل كنت أنكره، لا سيما وأنا الذي كنت اعلم بما تعانيه، رحمها الله، في فترات ظلام الليل، بل إنها كانت تخفي حزنها على الكثير بتجلدها أمام الآخرين كي لا يروها في حالة من الضعف أو الحزن الذي قد يكون له انعكاس على نفسيتهم ذلك ما كسبته رحمها الله من عادات عربية متوارثة. كنت، كما قلت، أنكر تصرّفاتها هذه، وما كانت تعانيه من حزن أفقدها بالتالي بصرها، إلى أن جاء اليوم الذي فقدت فيه ولدي الوحيد، هنا عرفت مدى تأثر الوالد والوالدة بفقدان أبنائهما.. وما على المسلم إلا الصبر، وإن الله مع الصابرين. محمد سالم البلهان* * سفير سابق
مشاركة :