متحف كوكب الشرق في القاهرة.. الست تغني الأطلال

  • 12/22/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لم تعد المتاحف فضاءات جامدة تعرض صورا وآثارا لحقبة زمنية من التاريخ، أو لبطل أو نجم فني خرج من دائرة الحاضر لينام طويلا بين الجدران، بل أصبحت هذه الفضاءات تحرك ذاكرة الشعوب حول موضوع ما، كما في متحف أم كلثوم الذي ينشط حفلات تدور حول أغانيها الخالدة التي لا تُنسى أو حول أغان لم تحظَ بجمهور واسع من السامعين في زمنها، مثل هذه المناسبات أو الحفلات التي ترافق عيد ميلادها تصبح دروسا في التاريخ للأجيال الجديدة، التي انشغلت بأغانيها الجديدة عن فنانة حملت لقب سيدة الطرب العربي؛ صورها وملابسها ووثائقها تصبح حية إلى جانب أغانيها بصوت مطربين جدد يعرفهم الشباب. القاهرة - متاحف المشاهير بمصر ليست مجرد خزائن توثيقية تنطوي على مقتنياتهم ومتعلقاتهم الثمينة والنادرة، فهي بوابة لتجديد الحنين إلى زمن التفوق في الثقافة والفنون وسطوع القوة الناعمة الفاعلة، ومتحف أم كلثوم شاهد على عصر أيقونة الغناء العربي التي نالت لقب كوكب الشرق. يلبّي متحف أم كلثوم في ذكرى ميلادها، في 30 ديسمبر الجاري، نداء محبيها المتعطشين إلى لياليها الساهرة والصاخبة. ولأن الحاضر يكاد يخلو من النبوغ الحقيقي في مجالات الفن والثقافة المتشعبة، باستثناء طفرات وحالات فردية هنا أو هناك، فإن متاحف أحمد شوقي ومحمد عبدالوهاب ومحمود مختار ومحمود خليل وأم كلثوم وغيرهم، تستقطب الكثيرين من الباحثين عن التفرد والأصالة، وعن عناصر الجمال والإمتاع والإبهار المتوارية في سنوات النضوب الأخيرة. تلقى الاحتفاليات والمعارض الاستعادية للأعمال القديمة في الغناء والمسرح والعرائس والرقص الشعبي والتشكيل، حضورا كبيرا، بما أغرى مؤسسات الدولة للاهتمام بهذه المناسبات، لطلاء الحاضر بدهان الماضي الذي يبدو أكثر بريقا. بمناسبة الذكرى 120 لميلاد أم كلثوم (30 ديسمبر 1898)، فتح متحف أم كلثوم التاريخي بقصر المانسترلي العريق في منيل الروضة بالقاهرة أبوابه للجمهور على مدار الشهر الجاري لمتابعة حفلات موسيقية وغنائية مجانية، يقضي خلالها الحضور ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة بصحبة كوكب الشرق. في زيارتهم للمتحف الأثري النابض بالحياة بمحاذاة النيل الخالد، يطالع الزوار مقتنيات فنانة الشعب الخاصة التي رحلت عن دنيانا في 3 فبراير 1975، وأوراقها، وخطاباتها، وصورها النادرة بالمتحف، وفساتينها ومجوهراتها ومتعلقاتها الشخصية، ومكتبتها الموسيقية والغنائية، وكنوزها وأسرارها الفنية، وكأنما تستقبلهم سيدة الغناء العربي بنفسها قائلة “هذه ليلتي”.بعد التشبع بعبق الذكريات والمعروضات الجذابة في المتحف، تصحبهم “الست” إلى قاعة الاحتفالات، حيث الحفلات الموسيقية والغنائية والشعرية الساهرة لفرق الموسيقى العربية تحت عنوان “كلثوميات”. وتأتي هذه الحفلات بمثابة استعادة موازية لروح سيدة الطرب العربي، وقراءة متعمقة لسر خلودها كحنجرة ذهبية وشخصية استثنائية، وتشرف على تنظيمها إدارة المتحف التابع لقطاع صندوق التنمية الثقافية، بمشاركة أكاديميين وموسيقيين من أجيال مختلفة. تبدو زيارة متحف أم كلثوم بقصر المانسترلي إطلالة مزدوجة على التاريخ والسحر، وتسيطر حالة نادرة على الزائر، إذ يتعانق الألماس الحر في مجموعة مجوهرات سيدة الغناء العربي بالمتحف ومقتنياتها النفيسة، مع الصوت الذهبي المنثال في فضاء المكان من المكتبة السمع- بصرية، التي تضم الروائع الغنائية لفاطمة إبراهيم السيد البلتاجي، ابنة قرية طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية، التي امتلكت من الطاقات الخفية والقدرات الاستثنائية ما يؤهلها لأن تكون قيثارة الشرق الخالدة.يقع متحف أم كلثوم في حوالي مئتين وخمسين مترا مربعا، ويعود افتتاحه إلى ذكرى ميلادها في ديسمبر 2001 بعد ثلاث سنوات من التجهيز. لم تكن كوكب الشرق مجرد مطربة استثنائية أو حتى خارقة، مثلما يوضح حاتم البيلي مدير متحف أم كلثوم، بل هي أسطورة خالدة يصعب تكرارها، فمع ظهورها تبلور معنى “المؤسسة الفنية المتكاملة”. يقول البيلي لـ”العرب”، “هذه المؤسسة الشاملة، استطاعت على مدار سنوات متصلة أن تجمع الموسيقيين والموزعين الطليعيين وكبار شعراء الفصحى والعامية، وفي ذلك العصر الذهبي تحوّل الغناء إلى أيقونة ثقافية ووجه من وجوه القوة الناعمة، التي فرضت بها مصر شخصيتها في المنطقة العربية”. هذا النضج الفني وثراء التجربة في أعمال أم كلثوم وراء تعدد أنشطة متحفها الحالي، فهو ليس متحفا توثيقيّا فحسب، بل يحتوي أيضا على فعاليات حية، تتنوع بين حفلات موسيقية وغنائية، ومحاضرات تحليلية وأكاديمية، ويلجأ الكثير من الدارسين إلى تسجيلات المتحف وأوراقه للتتلمذ على يد أكاديمية أم كلثوم التنويرية. شكلت أم كلثوم انطلاقة حقيقية للأغنية والموسيقى العربية في النصف الأول من القرن العشرين، حيث تحولت الثيمات اللحنية في أعمالها من التطريب الحروفي إلى الأداء التعبيري، كما اتسعت مجالات الأغنية لتشمل القيم الوطنية والإنشاد الديني والإحالات السياسية، وانحازت أم كلثوم للإرادة الشعبية في مرحلة الاحتلال البريطاني، كما كرست أعمالها للحشد لمعارك مصر ودعم المجهود الحربي في عهدي عبدالناصر والسادات. أوضح المؤلف الموسيقي المايسترو هشام جبر، أن تجربة أم كلثوم، شأنها شأن التجارب الكبرى الموسيقية والغنائية في مصر، فهي تجربة “هاضمة”، ففي أعمالها العصرية تنصهر الملامح العربية والأوروبية والتركية، بنكهة مصرية أصيلة. وقال لـ”العرب”، “شكلت الأغنيات والقصائد التي شدت بها أم كلثوم وتعاملت فيها مع كبار الشعراء والموسيقيين، تطويرا للقوالب التراثية النمطية، وتآلفا بين الشرقي المألوف والغربي الوافد، على مستوى اللحن، وأيضا الآلات والتوزيعات والإيقاعات، بما يعني نشوء مدرسة مكتملة الأركان”. في متحف أم كلثوم، كل نظرة لها متعتها وجلالها، وكل خطوة لها دلالة ووزن، فخزائن الكنوز والأسرار متعددة، و”فرائد عقد” أم كلثوم متناثرة في الأنحاء. من عبدالناصر إلى أنور السادات، الذي أرسل إليها بدوره خطابا في أعقاب حرب 6 أكتوبر 1973 المجيدة، ليشكرها على التبرع بأرباح حفلاتها لصالح المجهود الحربي. أما العاهل المغربي الراحل، الملك الحسن الثاني، فقد منح أم كلثوم “وسام الكفاءة الفكرية من الدرجة الممتازة” في مارس 1965، وهو من مقتنيات المتحف.من مقتنيات المتحف اللافتة مجموعة من ‏الأوسمة‏ ‏والنياشين‏ التي حصلت عليها ‏أم‏ ‏كلثوم‏، منها قلادة‏ ‏النيل‏ ‏من‏ ‏الرئيس ‏عبد‏‏الناصر‏، وسام‏ ‏الاستحقاق‏ ‏السوري، وسام‏ ‏الأرز‏ ‏الوطني ‏من‏ ‏لبنان، وسام‏ ‏الكفاءة‏ ‏الفكرية‏ ‏من‏ ‏المغرب‏، وسام‏ ‏الجمهورية‏ ‏التونسية‏، وغيرها. يجد زوار المتحف قفاز أم كلثوم الأبيض، والآخر الأسود، والعود الخاص بها، والنظارة‏ الشهيرة المرصعة ‏بالألماس الحر‏، و‏البروش‏ ‏الهلالي الذي كانت تثبّته عادة على ‏فساتينها‏. وفي الدولاب الزجاجي، تتراص فساتينها الأنيقة، وهي لا تزال بحالة جيدة، وبعضها مطعم باللؤلؤ الحر. هذه الفساتين هي التي غنت بها أم كلثوم أغنياتها الشهيرة، “هذه ليلتي”، “سيرة الحب”، “يا مسهرني”، “فكروني” “الأطلال”، وغيرها. وتولى صندوق التنمية الثقافية جمع هذه المقتنيات منذ العام 1998، ممّا يمتلكه أفراد عائلتها والمقربون إليها. من المقتنيات كذلك “‏غرامافون”‏ وأسطوانات و‏مكبر‏ صوت‏، ‏أهدتها شركة “هيزماستر‏ فويس″ ‏‏لأم‏ ‏كلثوم، ومجموعة من الحقائب والأحذية‏ الثمينة المصنوعة ‏‏من‏ ‏جلد‏ ‏التمساح، وميكروفون‏ خاص أهدته ‏الإذاعة‏ ‏المصرية لسيدة الطرب العربي، ومجموعة من الأطروحات الجامعية حول أعمال أم كلثوم الفنية.

مشاركة :