في آب (أغسطس)، اكتشف شخص من جيل "فو سان داي"، المصطلح الصيني الذي يطلق على "طفل الجيل الثالث الثري"، أن أصدقاءه الأثرياء مثله في بكين كانوا يتخذون إجراء وقائيا جديدا عندما يسافرون إلى الولايات المتحدة: يتركون خلفهم الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة خاصتهم، في العاصمة الصينية ويأخذون معهم أجهزة بديلة "نظيفة". قال هذا الشخص لـ "فاينانشيال تايمز"، "يحملون هاتفا آخر خاليا من أي معلومات. يأخذون حذرهم (...) ويتركون الهاتف الذي يستخدمونه عادة في الصين ويصطحبون معهم هاتفا آخر خاليا بدلا منه". أضاف ابن الجيل الثالث الثري أنه "وأصدقاءه لا يشعرون بأن لديهم ما يريدون إخفاءه". لكن بعد التدهور السريع في العلاقات الصينية ـ الأمريكية خلال فترة الصيف، سمعوا كثيرا من القصص عن أصدقاء - وأصدقاء لهؤلاء الأصدقاء - تم إيقافهم من قبل "عملاء حماية الحدود والجمارك الأمريكية بهدف تفتيش أجهزتهم الإلكترونية ليروا ما هو مكتوب في صفحات "فيسبوك"، أو "وي تشات" الخاصة بهم، أو أيا كان التطبيق". بعد أربعة أشهر، كان لدى أفراد النخبة الصينية أمور أكثر ليقلقوا بشأنها غير موظفي الحدود الأمريكية الفضوليين. في أول كانون الأول (ديسمبر)، تم احتجاز مينج وانزو، ابنة أحد أشهر رجال الأعمال في الصين، في كندا بناء على طلب مدعين عامين أمريكيين. فهي مطلوبة في الولايات المتحدة بتهمة احتيال مصرفي مزعوم يتعلق بالتهرب من عقوبات أمريكية ضد إيران. رين زينجفي، والد مينج، هو مؤسس شركة هواوي التي أصبحت على مدى ثلاثة عقود إحدى أكبر الشركات المصنعة لمعدات شبكات الاتصالات اللاسلكية والهواتف الذكية في العالم. مينج، التي أطلق سراحها قاضٍ في فانكوفر بكفالة، هي نائبة رئيس مجلس إدارة شركة هواوي ومديرة الشؤون المالية فيها أيضا. ولوضع حجم الصدمة بهذه الحادثة في سياق أمريكي، كان الأمر كما لو أن ابنة ستيف جوبز، التي تأتي في المرتبة التالية بعد والدها في سلم شركة أبل، قد تم احتجازها في موسكو في انتظار تسليمها المحتمل إلى بكين. رين ضابط عسكري صيني سابق غادر جيش التحرير الشعبي في ثمانينيات القرن الماضي لإنشاء شركة هواوي. وبسبب هذه الخلفية، فضلا عن الوصول العالمي لشركة هواوي وهيكل ملكية موظفيها غير الواضح، لم تستطع الشركة أبدا التخلص من المخاوف الأمريكية من أن معداتها تشكل خطرا أمنيا على الحكومات الغربية. وفي حين يتم التشكيك في رين في الخارج، إلا أنه يبقى محبوبا داخل بلاده. قال روبرت هوجويرف، مؤسس "هورن ريبورت" Hurun Report، مجلة موثوقة متخصصة في إعداد قوائم بالأشخاص الأكثر ثراء في البلاد "تقريبا جميع أصحاب المشاريع الصينيين الذين قابلتهم يحظون باحترام هائل بسبب ما فعلته "هواوي" داخل الصين وعلى الساحة العالمية". أصداء قضية مينج شعر بها الجميع في أنحاء الصين كافة. قال أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في إحدى أكبر شركات التكنولوجيا المملوكة للدولة في البلاد "لطالما كنا نعرف أن كندا هي دولة خاضعة لسيطرة الولايات المتحدة وستمنع الاستحواذات الصينية على شركات التكنولوجيا الكندية "لأسباب تتعلق بالأمن الوطني". لكن هذه القضية كانت مفاجأة صادمة". وأضاف المسؤول أنه "وزملاءه لا يخشون من أن يلاقوا المصير الذي لاقته مينج". فهنالك عدد قليل من الشركات الصينية الموجودة بشكل مباشر في مرمى نيران الحكومة الأمريكية تماما كما هي شركة هواوي. إلا أن احتجاز مينج عزز استنتاجا توصلت إليه شركته في عام 2017: لا جدوى من محاولة شراء شركات تكنولوجيا أمريكية أو كندية. والآن شركته تركز جهودها المبذولة في عمليات الاستحواذ بشكل شبه كامل على أهداف أوروبية وإسرائيلية، عادة ما تكون قيمتها دون ما يسميه "عتبة سياسية" قدرها 300 مليون دولار، لتجنب الرقابة الحكومية والإعلامية. ووصف سيما نان، وهو مذيع وطني بارز، الحادثة بأنها "مثال آخر على هيمنة أمريكا وإمبرياليتها"، مضيفا أنها ذكّرت "جميع الصينيين بضرورة توحيد صفوفهم ورفع راية الوطنية عاليا". واستدعى نائب وزير الخارجية الصيني كلا من السفيرين الكندي والأمريكي للتعبير عن غضب حكومته من احتجاز مينج. لكن في تصريحاتها العامة، كانت الحكومة الصينية حريصة على أن توجه معظم غضبها إلى أوتاوا بدلا من واشنطن. وعلى الرغم من غضب المسؤولين الصينيين، إلا أن أهم أولويات سياستهم الخارجية هي التوصل إلى نهاية متفاوض عليها للحرب التجارية مع الولايات المتحدة. فهم لا يريدون أن تعرقل قضية مينج المحادثات التجارية مع إدارة ترمب. وفي غضون عشرة أيام من احتجازها، اعتقلت السلطات الصينية مواطنين كنديين على الأقل بتهمة "الإضرار بالأمن القومي للصين"، ولا توجد أي حالات مؤكدة لأي أعمال انتقامية مماثلة ضد مواطنين أمريكيين. ولا يوجد أي تأكيد رسمي على أن احتجاز الكنديين - مايكل كوفريج ومايكل سبافور - واحتجاز مينج مترابطان. والتزم معظم المعلقين على منصات وسائل الإعلام الاجتماعية الصينية التي تخضع لمراقبة صارمة، بسيناريو الحكومة الذي وضعته ضد أوتاوا. قال هان دونجيان لمتابعيه الذين يتجاوز عددهم 600 ألف في موقع سينا ويبو الإلكتروني Sina Weibo، وهو موقع مماثل لـ "تويتر" في الصين "يجب ألا تتوقف تدابير الصين المضادة. على الصين أن تجعل كندا تدفع الثمن غاليا لإهانتها مواطنة صينية بريئة". يرى هان أن مينج "اختُطفت". لا يمكن أن يكون التناقض بين احتجاز مينج واختفاء كوفريج وسبافور أكثر وضوحا. ظهرت مينج مع محاميها أمام قاض مستقل في محاكمة مفتوحة مكتظة بالصحافيين. وتم إطلاق سراحها بكفالة والسماح لها بالعودة إلى أحد منزليها في فانكوفر، اللذين تبلغ قيمتهما مجتمعين ما لا يقل عن 14 مليون دولار كندي "10.5 مليون دولار أمريكي". مثل هذه المخابئ الفخمة - وفرص التعليم في الخارج التي منحوها أطفالها الثلاثة – ربما تجعل مينج تبدو بطلة قومية غير متوقعة. وخلال جلسة الاستماع من أجل كفالتها، عرض محاميها على المحكمة صورا لعائلة مينج وهم يستمتعون ببيئة كولومبيا البريطانية النقية. يبدو أن معظم الصينيين العاديين لا يحسدون مينج على فعل ما يمكنهم فعله لو كان الأمر بيدهم. في الحقيقة، عشرات الآلاف من العائلات الثرية من البر الصيني الرئيسي فعلت الشيء نفسه الذي فعلته مينج. وفقا لتعداد فانكوفر عام 2016، أصبح سكانها من ذوي الأصول الصينية يمثلون 20 في المائة من مجموع سكان المدينة البالغ 2.4 مليون نسمة. "لقد عدت مع عائلتي"، كتبت مينج في حسابها على "وي تشات" بعد إطلاق سراحها بكفالة. "أنا فخورة بـ "هواوي" وفخورة ببلدي الأم. شكرا لكم جميعا على اهتمامكم". وأسفل تعليقاتها، نشرت إعلانا لشركة هواوي يصور قدم راقصة بالية مصابة بكدمة مع سطر أخير "وراء العظمة، هناك معاناة". من ناحية أخرى، اختفى كوفريج وسبافور في جهاز أمن الدولة في الصين، حيث لا يتمتعان بأي وجه من أوجه الحماية القانونية الممنوحة لمينج. ولم يعد لهما تفاعل على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بهما.
مشاركة :