المرتكز الفلسفي لآثار الفرنسي ألان باديو المتنوعة بين المسرح والرواية والمقاربات الجمالية والسياسية والمديح والسجال، حوصله في كتب ثلاثة كبرى تمثل ما يشبه الحكاية الميتافيزيقية هي "الكينونة والحدث" (1988) و"منطق العوالم" (2006) وأخيرا "تأصّل الحقائق" الذي ظل يشتغل عليه طيلة خمسة عشر عاما. بعد أن درس الحقائق والأفراد من منطلق نظرية الكينونة، وبعد أن أكد أن كونية الحقائق وأبطالها يمكن أن تخضع لقواعد المظهر في عالم مخصوص، يتناول في هذا الجزء الثالث مسألة خطيرة: إلام تستند مقولة إن الحقائق مطلقة، ما يعني أنها ليست فقط ضد أي تأويل تجريبي، بل تملك أيضا ضمانة ضد بنية متسامية؟ ما مصير الحقائق والأفراد الذين يقع تناولهم، بعيدا عن أشكال كينونتهم البنيوية وأشكال مظهرهم التاريخي الوجودي، في مطلقية فعلهم التي لا تراجع عنها، وفي المصير اللانهائي لأثرهم المنتهي؟ وماذا نقصد بمطلقية الحقيقة، ما دامت الآلهة قد ماتت؟ هي محاولة لبناء فكر تام يناسب عصرنا، مستوحى من مواد عقلانية معاصرة، رياضية وشعرية وعاطفية وسياسية، أي من الحياة الحق. أثار دخول عبارة "ما بعد الحقيقة" قاموس أكسفورد عام 2016 عدة تعاليق صحافية، لا سيما ظاهرة الـ"فيك نيوز" دون تحليل عميق. بيد أن هذا المفهوم لا يخص الروابط بين السياسة والحقيقة وحدها، بل يشوش التمييز بين الصواب والخطأ، ويسيء إلى قدرتنا على العيش معا في عالم مشترك. في كتاب بعنوان "ضعف الحقيقة"، تفكك الفيلسوفة الفرنسة مريام ريفو دالّون عددا من مظاهر الخلط في العلاقات بين السياسة والحقيقة، لتبين أن مشكلة السياسة الأهم ليست مطابقتها للواقع، بل صلتها بتشكيل رأي عام وإصدار أحكام. إن استكشاف "نظام حقيقة" سياسي يوضّح ما به تتميز الأنظمة الديمقراطية، المعرضة بانتظام إلى ذوبان معالم اليقين، وغواية النسبوية، ويحول "الحقائق القائمة" إلى وجهات نظر، وأنظمة توتاليتارية، حيث تصنع سلطة الأيديولوجيا عالما خياليا تماما. وبدل أن تثري ما بعد الحقيقة العالم، تفقّر المخيال الاجتماعي، وتشكك في الأحكام والتجارب الحساسة التي يمكن أن نشترك فيها. وفي رأيها أنه من الضروري أن نعي طبيعة هذه الظاهرة إذا كنا نريد توقي آثارها الإيثيقية والسياسية. المؤثرات الوجدانية والمعايير القيمية في كتابه الجديد "الظرف الفوضوي" يبين فريديريك لوردون الباحث في مجال الفلسفة أن الفوضى في أصلها اليوناني "أنْ أَرْكي" تعني شيئا لا أساس له، فهي مفهوم مركزي لمبحث قيمي عامّ ونقدي. عام لكونه ينظر بجدية إلى حديثنا عن "القيمة" بخصوص أشياء مختلفة كالاقتصاد والأخلاق والإستيتيقا وكل أشكال العظمة، ويبحث فيها عن مبدأ مشترك. ونقدي لأنه يقيم الدليل على غياب القيمة عن القيم، ويطرح سؤالا لمعرفة كيف لمجتمع أن يقوم وهو لا يقوم على أي شيء. وفي رأيه أن ليس لهذين السؤالين سوى جواب واحد: المؤثرات الوجدانية المشتركة. فهي التي تخلق القيمة في سائر القيم. وهي التي تسند القيمة حيث لا يوجد أي تجذر ورسوخ. ويستخلص الكاتب أن ليس للمجتمع في الظرف الفوضوي سوى عواطفه ووجدانه كي يساعد نفسه على أن يتجاهل أنه لا يعيش إلا معلقا في ذاته.
مشاركة :