أحداث باريس وإجراءات معالجة التغير المناخي

  • 12/23/2018
  • 00:00
  • 24
  • 0
  • 0
news-picture

كان نجاح مؤتمر باريس لمكافحة التغير المناخي 2015 بمثابة نجاح كبير للسياسة الخارجية الفرنسية، وبعد فشل عدد كبير من جولات التفاوض التي استضافتها الكثير من العواصم والمدن في دول مختلفة، وكان الجانب الأكبر من هذا الفشل يعود إلى سياسات بعض الدول الكبرى خصوصاً الولايات المتحدة، كما أنه لا يمكن إعفاء بعض دول الجنوب من قدر من المسؤولية حيث كانت تحاول أن تضع كل الأعباء والمسؤولية على تلك التي قطعت شوطاً أكبر في التصنيع وتلوث البيئة، ولكنها، أي هذه الأخيرة، لم تكن تمثل العقبة الأصعب مقارنة في الولايات المتحدة وبعض الدول المتقدمة الأخرى، وقد حدث الاختراق في هذه المفاوضات بعد جهود صعبة، وكان لموقف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما فضلاً كبيراً في التوصل إلى الاتفاق. وحاولت فرنسا بعد ذلك استمرار دورها الرائد في هذا الصدد فاستضاف ماكرون قمة الكوكب الواحد في باريس في 12 كانون الأول (ديسمبر) 2017، حيث حضر بعض قادة العالم، بينما غاب عدد من أكبر قادة الدول صاحبة المسؤولية الأكبر عن تلوث البيئة، ومنها: الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وكندا، والهند، والبرازيل، حيث حذر ماكرون من أن البشرية تفقد المعركة ضد الاحترار والتغير المناخي، كما عقد قمة أخرى في نيويورك شارك فيها عدد من قادة العالم في أيلول (سبتمبر) الماضي، وعبر من خلالها وفي مناسبات أخرى عن انزعاجه من قرار الرئيس الأميركي الانسحاب من الاتفاق. ولأن ترامب لا يتسامح مع أي انتقادات ضد سياساته؛ فإنه عندما اندلعت أحداث فرنسا، سارع بالتشفي من فرنسا ماكرون، بأن هذا يؤكد سلامة سياسته الخاصة بتغير المناخ، وكان بهذا يرد على الانتقادات الأوروبية خصوصاً الفرنسية والتي عبر عنها الرئيس الفرنسي ماكرون بقوة عندما أعلن ترامب انسحابه من اتفاق باريس للتغير المناخي، على أن تشفي ترامب في نظيره الفرنسي كان خالياً من المعنى كما سنرى. لقد تراجع ماكرون عن قراره بزيادة الضرائب على الوقود، واعتبر ترامب هذا نصراً لوجهات نظره الرافضة أي إجراءات اقتصادية للحد من الانبعاثات، ولكن ترامب لم يعلق مرة أخرى على أن اضطرابات فرنسا لم تتوقف على رغم تراجع ماكرون عن قراره بزيادة الضرائب على المحروقات، وهو ما يعني ببساطة أن هذه القرارات كانت هي فقط الشرارة التي تخفي إشكالات فرنسية أكبر تسببت في الأزمة السياسية الداخلية والتي هي ليست موضوعنا الآن، والتي كان ترامب مخطئاً تماماً في تفسيرها، فالقضية الأكبر خلف كل ذلك فيما يتعلق بقضية تغير المناخ، أن هذه الاجراءات الفرنسية ليست سوى أحد الحلول للتعامل مع الأزمة، بل إن دراسة أميركية مهمة أجراها معهد الموارد العالمية في واشنطن أشارت إلى استبعاد أن يكون متظاهرو باريس والسترات الصفر من مؤيدي ترامب في هذا الصدد، أو من المعارضين لاتخاذ إجراءات لمكافحة الاحترار والتغير المناخي، بل ان العكس هو الصحيح تماماً، وأن أهدافهم الرئيسة هي العدالة الاجتماعية، وأن بعض الأفكار التي يتبناها النشطاء تصب بقوة لصالح إجراءات مكافحة التغير المناخي، وهذه الدراسة المبنية على استطلاع رأي موسع على أهداف واهتمامات وأفكار أصحاب السترات الصفر مفيدة للغاية سواء للمهتمين بتحليل أسباب اضطرابات باريس أو الأفكار المختلفة للتعامل مع التحديات المعاصرة، ومنها تغير المناخ والعدالة الاجتماعية باستخدام أفكار جديدة خارج الصندوق. المشكلة في الأساس هي ضرورة اعتراف العالم أجمع بأن هناك مخاطر كبرى نتيجة ظاهرة الاحترار العالمي، والارتفاع في درجة حرارة الكرة الأرضية ونتيجة التجاوزات المتعددة للجنس البشرى ضد الطبيعة، فضلاً عن الأشكال المتعددة للتلوث التي تحمل الكثير من التهديدات على نطاق واسع من الكرة الأرضية، وعندما وصلت دول العالم إلى ترتيبات أكثر وضوحاً للتعامل مع هذه التحديات في قمة باريس، ومن بينها إنشاء صندوق موازنته 100 بليون دولار أميركي للتعامل مع هذه التحديات، فضلاً عن بقية ما تضمنه الاتفاق الدولي الذي شاركت فيه كل دول العالم تقريباً، فقد كان هذا ينبع من فلسفة محددة تتضمن مشاركة جميع دول العالم في تحمل مسؤوليتها، فالكل يعلم أن التزام بعض الدول وليس كلها يشكل خطورة كبيرة، حتى لو قلت المخاطر بعض الشيء، كما أن الكل يعرف أنه من دون مشاركة الاقتصاديات الكبرى في العالم فلن يتحقق شيء، من هنا كان انسحاب الولايات المتحدة، بحجم اقتصادها الضخم، كارثة كبرى في هذه الاجراءات العالمية المطلوبة. المشكلة أيضاً أن رفع أسعار الوقود الملوثة للبيئة ليس المستهدف في ذاته، ولكن تقليص استخدام هذا الوقود لصالح الوقود الأقل تلوثاً للبيئة هو الهدف الأساسي وليس تصعيب حياة الناس في البلدان المختلفة، ما يعني أن الحل بعيد الأجل والأكثر استمرارية هو التحول نحو مصادر الطاقة البديلة غير الملوثة، وإنتاجها على نطاق واسع غير مكلف اقتصادياً، وهو أمر نعرف جميعاً أنه مازالت تكتنفه الكثير من الصعوبات ومازال أمامه بعض الوقت. والتحدي الكبير الذي يواجه الاتفاق بدأت إرهاصاته في وقت مبكر حتى أنه سبق قرار ترامب الذي كان متوقعاً منذ حملته الانتخابية إلى البيت الأبيض، فمع حال السيولة الدولية واختلاط الأوراق ومناخ الأزمة والتوتر الذي يواجه كثير من دول العالم، الذي يتخذ كثيراً من العناوين سواء ازدياد حالات التوترات السياسية الداخلية في كثير من دول العالم وصعود الاتجاهات القومية والشعبوية، والأخطر موضوعات الحروب التجارية التي تكرس مناخ التوتر والأنانية والتنافسية العالمية وعدم التأكد الذي يدفع للأرباح السريعة، ومن ثم يسهم في تأخير اتخاذ القرارات الرشيدة المطلوبة لقضية التغير المناخي، كل هذا يضيف مزيداً من الصعوبات والتأخير إزاء هذا التحدي الذي لا يحتمل التأجيل فحتى لو جاءت إدارة أميركية رشيدة في المستقبل وفي بقية البلدان الأخرى؛ فإن ما سيسببه التأخر في تطبيق الاجراءات قد يجعل هناك حاجة لتطبيق إجراءات أشد لإنقاذ حياة البشرية التي نعرفها الآن. ومن هنا، يحتاج الأمر إذاً من فرنسا تحديداً مع تصدرها لهذا الملف دولياً إلى أفكار مبتكرة وخلاقة تحاول أن تحمل الأغنياء ورجال الصناعة جزءاً من العبء بهذا الصدد، ويحتاج ماكرون الذي انخفضت شعبيته وفقاً لغالبية استطلاعات الرأي أن يثبت لهؤلاء الذين مايزالون يراهنون عليه أن يواصل تصديه لهذه القضية الكبرى بقدر حقيقي من الإخلاص والجدية، فالمهم ألا تؤدي أحداث باريس واختلاط الأوراق التي هي سمة عالمنا المعاصر إلى مزيد من التفاقم لآثار انسحاب واشنطن من الاتفاق، ومزيد من التأثير السلبي في مستقبل البشرية.

مشاركة :