قد لايرتقي محتوى كتاب ما إلى ذائقة قارئ متمرس يعي ماهية الكتابة ويدرك خفاياها فلايصل به إلى ماتعوده من إثراء معرفي وإغناء لغوي حتى أنه ليبدو وهو يتكئ إلى الرف المهمل في المكتبة كمن ظل طريقه ولم يدر ماهو فاعل. وقد يتجاوز محتوى كتاب آخر ماكان يظن قارئه فيحلق به بعيداً في فضاء المعرفة ولايعودا إلا وقد أكمل حشو ماثقف من نتوء في عقلة بماتيسر من معلومات وماأصاب من مفردات تضاف إلى بنكه المعرفي ورصيده اللغوي. “فقراءة الكتب الجيدة كمحادثة أفضل الرّجال في القرون الماضية.” والعبارة هنا لرينيه ديكارت. وليس أندر من الكتاب الجيد سوى القارئ الجيد، والقراءة هي الأمر الذي لايمكن أن يكون محض صدفة. فالقراءة تلك المهارة المعرفية التي يتقنها ذووها وتعتمد تفكيك النص المبهم وسبر أغواره بخفه وأناقة مكتسبتين أحياناً، لايمكن عسفها ولاقدرة لأحد على ترويضها فإذا ماجاءت راغبة مودة فلا فائدة منها ترجى ولاطائل ينتظر. لذا فلاضير في الإستغناء عن كتاب لم يرض ذائقة القاريء والتوقف عن قراءته قبلاً، وكذلك يفعل الأدباء وهم أحصف من يقرأ فقد كان الأديب السعودي الراحل غازي القصيبي يقرأ أربعين صفحة قبل أن يقرر الإستمرار أو التوقف عن قراءة كتاب ما. لذا فلا غرابة في أن تجد في مكتبة القاريء الحصيف رفاً أو إثنين قد خصصا للكتب التي أخفق في إنتقاءها خلال مراحل إنتقاله من قاريء مبتديء إلى قاريء أريب يعي مايتفرد به كل كاتب ويعلم عند أيهم سيجد ضالته. فهو يعلم أنه حين يبحث عن عمل ذا قيمة أدبية وجمالية ينفذ من خلاله إلى فهم النفس البشرية لابد أن يحل ضيفاً على الروسي فيودور ديستويفسكي الذي لم يكسو الفكرة يوماً رداء أوسع منها ولم يضيق أسملتها حتى وهو يزاول ماتفرد به عما سواه ويغوص في أعماق النفس البشرية تلك المناطق الشائكة كان يدحرج عباراته ككرة البولنغ فتنزلق بسهوله نحو هدفها، حتى أصبح أحد أعظم روائيي العالم إن لم يكن أعظمهم. أما إن كان الأدب الواقعي ذو اللغة السهلة على غير إخلال بقواعدها هو ضالة القاريء فلامناص من أن يحط برحاله على ضفاف حركة التجديد الأكثر ثراءً في مؤلفات عميد الأدب العربي طه حسين الذي أطلق جِمال اللغة من عُقلها ولم تزل دواته حتى رحيله تثير عواصف التجديد الواحدة تلو الأخرى بإسلوب آسر أخاذ. وهكذا يفعل كل ضليع بشؤون القراءة على تنوع مآربه وتعدد غاياته وإختلاف طرائقه ليظفر بمايريد بيسر وسهولة تنعكسان بلا شك على مزاجه كقارىء، وهو أمر بالغ اليسر وربما أتى كحصيلة للقراءة التراكمية التي تأتي بطبيعة الحال من خلال مزاولة القراءة بشكل مستمر، فأستدامة أمر ما قطعاً ستفضي إلى إجادته.
مشاركة :