قابل صديق قبل عام زميلا له كان قائدا له في حزب سياسي سري في منتصف السبعينات. وفرح الصديق بـ«قائده» السابق وحاول احتضانه بعد عشرات السنين من الانقطاع، لكن الرجل فوجئ بأن «القائد» صافحه ببرود، وقال له: «لا تحاول أن تعرفني بعد الآن.. فما مضى قد انتهى.. لقد أصبحت شخصا آخر.. أرجوك»! وحكى لي الصديق أن الرجل هرب من أمامه ولم يرَ سوى غباره! أكثر تجارب البشر اليوم خاصة عندنا في الشرق تذهب مع الأسى الشديد مع الغبار، وتشرد مع الريح، فلا صاحب التجربة يكتبها أو يدونها، ولا الذين شاركوا في التجارب يحاولون تذكرها أو استرجاعها إلى عقولهم وقلوبهم. غير أنني لا أقصد التجارب السياسية والفكرية فقط التي عاشها الكثير من أبناء جيلنا والجيل السابق واللاحق أيضا، لكن هناك مئات التجارب الحياتية الجميلة التي خاضها الناس بكل عنفوان وحماس، وعاشوا بها ومعها لسنوات رائعة من عمرهم، لكنهم لم يتركوا بعدها حتى كلمة حق تقال فيها، وبلا دفتر ملاحظات صغير يدونون فيه أياما جميلة رحلت. فمع السياسة، شارك الكثير من البشر في تجارب ومغامرات لا حدود لها، وربما لا وصف لها، منها سجون ومنافٍ، وبعضها مختلفة على الإطلاق مثل مغامرات عاطفية وأخرى حياتية عامة. لكن المؤلم أن الغالبية الساحقة من هؤلاء تركوا التجارب والمغامرات وخبأوها في قلوبهم، ووصل الأمر ببعضهم إلى درجة أنه يرتعد كلما تذكرها أو روى آخرون قصة صغيرة عنها. لقد كان الاعتقاد السابق عندنا أن هؤلاء يخافون على أنفسهم من افتضاح أمرهم، أو أنه إذا أفشى تجربة سياسية ما فإنه سوف يتعرض إلى مشاكل مع السلطة والأمن وغيرهما. لكن مع مرور الوقت اتضح أن الكثيرين على الأقل ليسوا خائفين من تعرضهم لتحقيق من سلطة أو غيرها، بل إن بعضهم خائف على مصالحه وشخصيته ومكانته الحالية التي يعتقد أنها سوف تهتز، وربما ستنهار إذا عرف الناس عنه بعض التجارب التي خاضها في بعض فترات حياته. وإذا كانت التجارب الكبيرة على الأقل ليست ملكا لأصحابها فإنها بهذا المعنى تصبح مهمة للجميع، وقابلة لقراءة واستماع الجميع لها. وبهذا فإن أصحاب التجارب الذين لا يكتبون مذكراتهم أو يمتنعون عن نشر تجاربهم يشاركون في خطأ كبير وربما في جريمة ألا يستعيد الناس بعض ذاكرتهم، وأن يبقوا طوال عمرهم يبحثون عن عبر يصر أصحابها على تركها تضيع بلا معنى، وعن قدوات تستحق أن يتأملوها ويأخذوا العبر منها. أتذكر قبل عامين أنني أخبرت صديقا عن نيتي كتابة تجربة ماضية كانت تلح عليّ طوال أعوام كثيرة، لم يمنعني من كتابتها سوى الكسل فقط! أتذكر أنني قبل أن أكمل كلامي صرخ الصديق في وجهي بصوت عال: «أرجوك.. يا خالد.. لا تكتب.. ولا تنشر».. وعندما سألته: «ولكن لماذا هذا الحماس منك لعدم الكتابة؟».. رد بنفس القوة: «سوف تلحق بنفسك المشاكل والمآسي.. أنت لا تعرف الناس ولا تعرف ماذا سوف يقولون عنك»! وأكمل: «وإذا قلت كل ما عندك.. فاسمع الحكايات التي سوف تقال عنك.. سيقولون إنك كذا وكذا». وبدل ما سيقول عنا الناس فإن أول الدروس التي يتعلمها التلاميذ في مدارس الغرب هي أن يبوحوا بمشكلاتهم، وأن يتعلموا كتابة مذكراتهم والاستمتاع بكتابة تجاربهم. هناك حق للبشر مهما كانوا كبارا أو صغارا أن يرووا للجميع تجاربهم وأحلامهم التي لم تتحقق، وأمنياتهم التي تحطمت في الواقع. فليس بالخوف وحده يحيا الإنسان!
مشاركة :