يعتقد البعض خطأ أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بسحب القوات الأمريكية من سوريا يعد بمثابة بداية تراجع من جانب الولايات المتحدة عن الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط التي تبيض لها ذهبا، سواء من خلال السيطرة على الثروات البترولية الهائلة، أو من خلال عقد صفقات لبيع السلاح بالمليارات لدول المنطقة.كما أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، سيكون ابتلع نفس طعم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، لو تخيل أن سحب القوات الأمريكية، يعني منحه الضوء الأخضر لإحباط مخطط إقامة الدولة الكردية الكبرى، تقديرا لدوره في احتضان جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، ومجموعة من الخونة والعملاء بهدف زعزعة استقرار مصر.لكن من يتناول قرار ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا بنظرة تحليلية ثاقبة، سيجد أن هذا القرار يأتي بعد اطمئنان إدارة دونالد ترامب، على أن دول المنطقة أصبحت الآن مؤهلة تماما لتولي مهمة تدمير نفسها بنفسها، وإهدار ثرواتها من البترول والغاز دون الحاجة للتواجد العسكري الأمريكي. وفي واقع الأمر، فإن قرار الرئيس ترامب يعكس رضاء إدارته على عاملين أساسيين، أولهما حسن سير عملية تنفيذ مخطط نشر الفوضى الخلاقة الذي يقوم على تقسيم منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة نفوذ سنية، ومنطقة أخرى تخضع للنفوذ الشيعي، ومنطقة ثالثة تحتضن الشعب الكردي الكبير الذي يتواجد بكثافة عالية في أربع دول في المنطقة هي تركيا، وإيران، وسوريا، والعراق.أما العامل الثاني الذي أدخل الطمأنينة في قلب ترامب، فهو تولي تركيا بقيادة الإخواني رجب طيب أردوغان، وقطر بقيادة تميم زعزعة استقرار منطقة الشرق الأوسط، خاصة زعزعة استقرار مصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين ، سواء من خلال تدعيم الجماعات الإرهابية على رأسها جماعة الإخوان المسلمين، أو من خلال صرف المليارات على إيواء خونة وعملاء، بزعم تدعيم المعارضة، والدفاع عن الديمقراطية في هذه الدول الأربع. فمن ينظر لمنطقة الشرق الأوسط بعد مرور 15 عاما على بداية تنفيذ مخطط نشر الفوضى الخلاقة في المنطقة باحتلال العراق، وما أسفر عنه هذا الاحتلال، من تقسيم العراق لثلاث دويلات على أسس مذهبية، وعرقية، سيجد أن أمريكا أرست بنجاح الخطوة الرئيسية لتدمير المنطقة، وأن الوقت قد حان لكي يستكمل أبناء المنطقة عملية زعزعة استقرار دولهم، وتقسيمها إلى دويلات متحاربة على أسس دينية، ومذهبية، وعرقية، وقبائلية. ويكفي أن نتابع هذا المخطط الجهنمي، منذ أن أطاحت قوات الأحتلال الأمريكي بنظام الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، ثم سيناريو إعدامه على أيدى الشيعة صبيحة عيد الأضحى المبارك، لندرك كيف يسير هذا المخطط أفضل حتى مما كان ييتمناه أكثر المتفائلين في الإدارات الأمريكية المتعاقبة، كما يكفي أيضا رصد قدر الكراهية التي تزايدت بين الشيعة والسنة في العراق نتيجة هذا الإعدام وتوقيته، لندرك أن الجزء الآسيوي من منطقة الشرق الأوسط انقسم بالفعل، كما أراد له الأمريكيون، بتخطيط من الصهيونية العالمية، إلى منطقة نفوذ سني وأخرى تخضع للنفوذ الشيعي، وثالثة بدأت حربها لإقامة الدولة الكردية الكبرى، بعد أن تم وضع اللبنة الأولى لهذه الدولة بإعلان الأكراد العراقيينا ستقلال إقليم كردستان عن العراق في 2017. وفي واقع الأمر، فإن الولايات المتحدة لم تتخذ قرار سحب قواتها من سوريا، إلا بعد أن اطمأنت على اقتراب النفوذ الإيراني الشيعي من الحدود السعودية السنية، من خلال ميليشيات الحوثي في اليمن، فضلا عن إعادة تقسيم اليمن، كما كان قبل توحيده، لعدن، وصنعاء، وبكل تأكيد، فإن من العوامل الذي ساهمت في قرار أمريكا بسحب قواتها من سوريا، التراجع التام للكفاح الفلسطيني، واطمئنان إسرئيل ، طفل أمريكا المدلل، على أمنها، بعد أن تم تقسيم فلسطين، إلى غزة بقيادة حماس الخاضعة للنفوذ الإيراني، وفلسطين أخرى في رام الله بقيادة فتح، العدو اللدود لحماس، كما يأتي القرار الأمريكي بعد أن تم استغلال ثورات الربيع العربي بنجاح منقطع النظير لنشر الفوضى في ليبيا، وسوريا، من خلال تشجيع وتسليح الجماعات والميليشيات المسلحة، ذات الخلفية الإجرامية والمتأسلمة في هذه الدول. وكان الرئيس ترامب برر قراره بسحب القوات الأمريكية من سوريا بدوافع اقتصادية، وسياسية، في آن واحد، مشيرا إلى أن التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، منذ احتلال العراق للكويت، كلف اقتصاد بلاده أكثر من 7 تريليون دولار، في وقت تعاني فيه الولايات المتحدة من بنية تحتية متهالكة، تتطلب تكريس كل موارد الدولة للنهوض بها، كما برر ترامب، إنهاء التدخل العسكري الأمريكي في سوريا، بأنه أتم مهمته بالقضاء على تنظيم داعش الإرهابي، واعتبر ترامب أن مواصلة سياسة بلاده في تدعيم جماعات مسلحة مناوئة لنظام بشار الأسد في سوريا، لا أحد يعرف حقيقة توجهاتها، قد يأتي بنتائج عكسية تؤدي لانتشار الإرهاب كما حدث في ليبيا والعراق. وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، كشفت عن أن القرار الأمريكي يأتي بعد مكالمة هاتفية بين ترامب ونظيره التركي رجب أردوغان الذي هدد خلال المكالمة، بشن هجوم على وحدات حماية الشعب الكردية، التي تمثل المكون الرئيسي لقوات سوريا الديمقراطية التي تدعمها الولايات المتحدة في حربها ضد تنظيم داعش. وعند تحليل مضمون المكالمة التي تمت بين الرئيس ترامب، والرئيس أردوغان، بخصوص الانسحاب الأمريكي من شمال سوريا المتاخمة للحدود مع تركيا، حيث يتمركز الأكراد في سوريا، سنجد أن مضمون هذه المكالمة يتشابه تماما بالطعم الذي كان قد ألقاه الأمريكيون لصدام حسين عندما شجعت السفيرة الأمريكية ببغداد، صدام حسين على احتلال الكويت، ليكتب صدام حسين نهايته المأساوية، التي شهدها العالم أجمع، بداية من خروجه من حفرته كالمجاذيب، طويل اللحية، شعث الشعر، رث الثياب، بعد أن ظل لسنوات طويلة الزعيم القائد المهيب الركن. وقبل أن نوضح أوجه الشبه بين الطعم الأردوغاني، والطعم الصدامي، ينبغي علينا أولا التعرف على الشعب الكردي الكبير. فالأكراد يتمركزون على الحدود المشتركة لكل من تركيا، وإيران، وسوريا، والعراق، ما يجعلهم يمثلون تكتلا سكانيا مهما، يقدره البعض في الدول الأربع بنحو 35 مليون كردي. وأصبح يحلو للبعض تشبيه وضع الشعب الكردي بالشعب اليهودي قبل قيام دولة إسرائيل في 1948، فالأكراد يصفون أنفسهم بأنهم شعب بلا أرض، تماما مثلما كان يشبه اليهود أنفسهم، قبل قيام دولة إسرائيل، بأنهم شعب بلا أرض، وأن فلسطين أرض بلا شعب. ويمثل أكراد تركيا النسبة الأكبر من تعداد الشعب الكردي، حيث يقدر عددهم بنحو 15 مليون كردي، يمثلون نحو 20 في المائة من تعداد الشعب التركي، ويأتي أكراد إيران، في المرتبة الثانية، بنحو 6 ملايين كردي، يمثلون نحو 10 في المائة من الشعب الإيراني ويتراجع أكراد العراق للمركز الثالث، من حيث العدد بنحو 5 ملايين نسمة، لكنهم يمثلون مع ذلك نسبة تقترب من 16 في المائة من سكان العراق، وأخيرا يأتي أكراد سوريا في المرتبة الرابعة والأخيرة بأكثر قليلا من 2 مليون نسمة، لكنهم يمثلون أيضا نسبة 15 في المائة من سكان سوريا. ويشغل أكراد الدول الأربع مساحة متلاصقة تبلغ نحو نصف مليون كيلو متر مربع، أي نفس مساحة فرنسا، ونصف مساحة مصر، ويدين معظم الأكراد بالإسلام وبالمذهب السني، وسهلت جغرافيا المناطق الكردية الجبلية بمعظمها الواقعة في داخل الدول الأربع على الأكراد الحفاظ على لغتهم بلهجاتها المختلفة، وعلى عاداتهم، وتقاليدهم، وتنظيمهم المجتمعي، القائم بشكل أساسي على المجتمع القبلي. ويعتقد كثير من الأكراد في أسطورة تتعلق بمولد الشعب الكردي، فالأكراد يؤمنون بأن أصولهم ترجع إلى زمن النبي سليمان عندما أمر سليمان، بطرد 500 من الجن من مملكته، إلى جبال زغروس، ففر هؤلاء الجن إلى أوروبا لاختيار 500 عذراء جميلة كزوجات لهم، ثم توجهوا للاستقرار فيما أصبحت لاحقا بلاد كردستان، هكذا ولد الشعب الكردي كما تزعم الرواية الأسطورة. وترجع قوة الأكراد في الدول الأربع إلى أن كل منهم يمتلك ميليشيا مسلحة، تمثل عامل ضغط قويا على حكومات الدول التي يستوطنونها، ففي تركيا، يمتلك الأكراد منظمة حزب العمال الكردستاني، وهي منظمة مسلحة تسعى لإقامة حكم ذاتي في إطار الأراضي التركية حتى الآن، وفي إيران يمتلك الأكراد ميليشيا البشمركة الإيرانية، وحزب الحياة الحرة الكردستاني، والاثنتان تمتلكان قدرات عسكرية، وتعتبر ميليشيا البشمركة العراقية، الوحيدة التي تمكنت حتى الآن من مساعدة الشعب العراقي على الحصول على الحكم الذاتي، وتأمين الاستفتاء الذي جرى في سبتمبر 2017، وأسفر عن إختيار أكراد العراق الانفصال عن العراق، ولا بد من التنويه هنا إلى أن الفضل الأول فيما حققه الأكراد العراقيون يرجع للقوات الأمريكية، التي تتولى تسليح البشمركة العراقية، وتجعلها دائما على رأس القوات المحررة للمناطق العراقية التي كانت تخضع لتنظيم داعش الإرهابي. وقبل العودة لمضمون المكالمة التليفونية بين الرئيس ترامب، ونظيره التركي أردغان، لا بد من الإشارة هنا إلى وجود اتفاق "جنتلمان"، بين أمريكا وروسيا، أعطى الحق للتواجد العسكري الروسي في سوريا، لدعم الرئيس بشار الأسد و توفير الحماية له في نحو 60 في المائة من الأراضي السورية التي يسيطر عليها ، على أن تتعهد روسيا ، بألا تقترب أي عناصر مسلحة إيرانية أو موالية لبشار الأسد من الحدود السورية مع إسرائيل، كما يتضمن الاتفاق الودي على قبول روسيا بعدم قيام القوات المسلحة السورية، الموالية للرئيس بشار الأسد، بتهديد المناطق الكردية في شمال سوريا، والتي تمثل نحو 30 في المائة من الأراضي السورية، ويعد هذا الاتفاق في حد ذاته، بمثابة قبول غير رسمي من جانب بشار الأسد، للأمر الواقع بانفصال المدن الكردية السورية عن الدولة المركزية السورية في دمشق، ليصبح أكراد سوريا، في واقع الأمر، ثاني أكراد في المنطقة ينالون الاستقلال ولو بشكل غير رسمي . وإذا عدنا إلى مضمون المكالمة التليفونية بين الرئيس ترامب، ونظيره التركي رجب أردوغان، سنجد بالفعل أنها تتشابه تماما مع الضوء الأخضر الذي منحته أمريكا لصدام حسين لغزو العراق، فمجرد إبلاغ ترامب لأردوغان بالانسحاب من سوريا، وعدم تحذير ترامب لأردوغان من شن هجمات على الأكراد السوريين، يعني أن ترامب أعطى الضوء الأخضر لأردوغان بالتصرف كما يحلو له في مواجهة أكراد سوريا، الذين يعيشون في المدن القريبة من حدود تركيا حيث يتمركز الأكراد الأتراك، وهنا سيبقى أمام أردوغان خياران، وكلاهما مر كالعلقم، وسيؤديان لنهايته المأساوية، إما أن يهاجم القوات الكردية السورية لمنع أكراد سوريا من إقامة دولتهم على الحدود مع بلاده مخافة تشجيع أكراد تركيا على تحقيق انفصال مماثل، إما أن يترك أكراد سوريا يزدادون قوة، بفعل الدعم العسكري الذي سينالونه بكل تأكيد من أمريكا حتى بعد انسحابها من سوريا، وفي هذه الحالة الثانية سيؤدي تزايد قوة أكراد سوريا إلى تدعيم أكراد تركيا، ما سيساعد حزب العمال الكردستاني التركي، ذي القدرات العسكرية القوية، على المضي قدما في جهوده للانفصال عن الحكومة المركزية التركية في أنقرة، وفي كلتا الحالتين لن يستطع أردوغان الوقوف مكتوف اليدين، وهو يرى دولة كردية على حدوده، تتصل بانفصاليي أكراد تركيا، خاصة بعد أن تخلو الساحة أمامه بانسحاب القوات الأمريكية، وأمام هذا الوضع الذي يهدد وحدة أراضي تركيا، لن يجد أردوغان أمامه سوى شن هجوم عسكري على أكراد سوريا، ولا يستبعد أن يشمل العمل العسكري التركي المتوقع، الهجوم على أكراد تركيا، المتعاطفين مع أكراد سوريا. وهنا سيبدأ السيناريو الصدامي لأردوغان، باجتماع مجلس الأمن، و فرض حظر جوي دولي على المناطق الكردية في سوريا وتركيا، كما سيصدر مجلس الأمن قرارا بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا، لكنها لن تصل بكل تأكيد، إلى درجة وضع منظومة مماثلة لمنظومة "البترول مقابل الطعام" الذي كان مفروضا على صدام حسين. ولن تتأخر المحكمة الجنائية الدولية في البدء بمحاكمة أردوغان، بتوجيه الاتهام له، بإبادة الشعب الكردي، وعلى غرار الرئيس السوداني، حسن البشير، ستصدر المحكمة الجنائية الدولية قرارا يجبر الدول الموقعة على ميثاق المحكمة، بإلقاء القبض على أردوغان، وتسليمه للمحكمة لتنفيذ العقوبة الصادرة بحقه بشأن إبادة الشعب الكردي، وربما يصف البعض هذا السيناريو بأنه سيناريو تخيلي يصعب تحقيقه، لكن من تابع سيناريو صدام حسين بجبروته، لا يستبعد أن يبتلع أردوغان نفس الطعم. ونهاية ينبغي التذكير بأن مخطط إقامة الدولة الكردية الكبرى ليس جديدا، بل يعود لسنة 1920 عندما نصت معاهدة "سيفر" التي قسمت الإمبراطورية العثمانية بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، على إقامة وطن قومي للأكراد في المناطق التي يشكلون فيها الأغلبية في شمال سوريا، والعراق، وإيران، وجنوب شرق تركيا، لكن الزعيم التركي العظيم كمال أتاتورك، المعارض للثقافة الإخوانية، نجح في إلغاء الشق الكردي الخاص بتركيا في اتفاق" لوزان" الموقع بين نفس الحلفاء في 1923، فهل يعيد أردوغان الحياة من جديد لاتفاقية "سيفر" بابتلاع الطعم الأمريكي؟ تساؤل لا يحتاج لإجابة بالنظر لرعونة أردوغان.
مشاركة :