قضية تراوح في مكانها منذ ثلاثين عامًا

  • 12/31/2018
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

منذ أن رأت قضية القرن النور في المسرح الدولي في مؤتمر قمة الأرض في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية عام 1992 وحتى اجتماع بولندا الأخير الذي عُقد في ديسمبر عام 2018. وهي مازالت تُراوح في مكانها بين مدٍ وجزر، فتتقدم خطوة إلى الأمام ثم تتأخر وترجع إلى الوراء خطوات واسعة مرة ثانية، وتحقق حينا تطورا بسيطا على المشهد الدولي ثم يتهدم ما تم إنجازه وتحقيقه بعد سنوات قليلة، وهكذا هو حال هذه القضية المعقدة والمتشابكة على المستوى الدولي منذ أكثر من ثلاثين عامًا. فهذه الأزمة المستدامة والخانقة التي تشهدها قضية القرن، أو قضية التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، تكمن في أنها لم تُعد الآن قضية بيئية علمية بحتة، فقد تم حسم هذا الجانب من القضية، وأجمع المجتمع الدولي ممثلا في منظمات الأمم المتحدة المعنية على واقعية التغير المناخي وسخونة الأرض، وأكد الجميع التداعيات الخطرة المهددة لصحة الإنسان وبيئته والكرة الأرضية جمعاء التي تنجم عن ارتفاع حرارة الأرض، فالمعضلة الكبرى في عدم علاج هذه القضية الحيوية، وعدم وصول الدول إلى إجماع مُلزم على أدوات وطرق الحل تكمن في أنها تحولت منذ عقود إلى قضية «أمن طاقة» للدول، وأصبحت ذات أبعادٍ اقتصادية على كثير من دول العالم، وخاصة الدول التي تعيش على الفحم، أو مصادر الوقود الأحفوري الأخرى كالبترول والغاز الطبيعي، سواء من ناحية الاستيراد أو التصدير أو الاستهلاك المحلي؛ أي أن علاج هذه القضية لا يحتاج إلى دليلٍ علمي دامغ جديد لإثبات حدوث هذه الظاهرة المناخية الكارثية وتهديداتها العميقة على المجتمع الدولي برمته، فالدول قامت بتسييس هذه القضية، وكل دولة تطرح الحل المناسب لها بحسب ظروفها وسياساتها القومية ومصالحها الآنية في مجال الطاقة ومصادر الوقود المستخدمة لتشغيل مصانعها وتوليد الكهرباء واستدامة عملياتها التنموية. فهذه القضية تنطبق عليها مقولة «التاريخ يُعيد نفسه»، ففي عام 1992 في قمة الأرض أو مؤتمر البيئة والتنمية، قامت دول العالم بوضع حجر الأساس لبناء قاعدة قوية متينة وجماعية تشترك فيها كل دول العالم وتقوم عليها الجهود الدولية لمكافحة التغير المناخي وإيقاف حرارة الأرض من الارتفاع، فوقعت الدول على ما أُطلق عليها «اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية للتغير المناخي»، وبدأت بعدها الاجتماعات السنوية للدول الموقعة على هذه الاتفاقية حتى بلغت ذروتها في الاجتماع الذي عقد في مدينة كيوتو اليابانية عام 1996. حيث تمخض عنه بروتوكول تاريخي عُرف ببروتوكول كيوتو، والذي يُلزم ولأول مرة الدول الصناعية والمتطورة والمتقدمة بوضع أهداف واضحة لخفض انبعاثاتها من الغازات المسؤولة عن التغير المناخي وسخونة الأرض وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون، في حين أن هذا البروتوكول أعفى الدول النامية وغير المتطورة من هذا الالتزام، حيث وقَّع عليه جميع الدول الصناعية الكبرى وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون، واعتبر المجتمع الدولي هذا الاجتماع نصرًا للبشرية وإنجازًا حقيقيا واقعيا لآلية العمل الدولي المشترك لعلاج القضايا البيئية التي تشترك في مسؤولية وقوعها كل دول العالم من دون استثناء. ولكن هذه الفرحة الدولية بالنصر المؤزر لم تستمر طويلاً، فقد تغيرت القيادات في أكبر دولة في العالم، ومع تغير القيادات تبدلت السياسات حول التغير المناخي، حيث جلس في البيت الأبيض جورج بوش الابن الجمهوري الذي لم يتحمس كثيرًا لهذا البروتوكول المناخي ولم يؤمن بدور الإنسان ومسؤولية أنشطته التنموية في سخونة الأرض، وكان يعتقد أن مثل هذا البروتوكول يضر بالاقتصاد الأمريكي، فقام بالانسحاب من البروتوكول وأعلن رسميا موت البروتوكول في 28 مارس 2001. ونتيجة لذلك أرجعتْ أمريكا دول العالم إلى المربع الأول الذي بدأت منه في عام 1992. وعندها اضطرت دول العالم للشروع مرة ثانية في مفاوضات جديدة ماراثونية استغرقت نحو عشرين عامًا مرَّت من خلالها في محطات ومدن كثيرة من دول العالم وانتهت أخيرًا في باريس 2015 حيث وافقت دول العالم جمعاء، صناعية متقدمة ونامية غير متطورة، على اتفاقية أو تفاهمات جديدة تتعهد كل دولة بصفة «طوعية» غير ملزمة بوضع حدود زمنية لخفض انبعاثاتها من الملوثات التي ترفع درجة حرارة الأرض، ولكن هذه الاتفاقية أيضًا لم تر النور طويلاً، فقد حدث لها كما حدث لبروتوكول كيوتو، حيث إن تغير القيادة في البيت الأبيض من الديمقراطي أوباما الذي وقع على الاتفاقية إلى الجمهوري ترامب الذي انسحب في الأول من يونيو عام 2017 منها. واليوم يسير قطار التغير المناخي من دون قائد يوجه دفة القطار ويؤثر في فاعليته في الواقع، فالاجتماع الذي عقد في ديسمبر 2018 في بولندا لم يتمخض عنه سوى وضع قواعد وضوابط لتنفيذ اتفاقية باريس وقيام كل دولة بحسب ضميرها وظروفها في خفض نسبة انبعاثاتها من دون أن يراقبها أحد، أو يحاسبها إن لم تف بالتزاماتها وتعهداتها أمام المجتمع الدولي. فقضية التغير المناخي حساسة جدًا بالنسبة إلى الكثير من الدول فهي قضية اقتصادية وأمنية بحتة، وخاصة الدول التي تعتمد على الفحم أو الوقود الأحفوري وليس لديها البديل عنهما، إضافة إلى أن اقتصادها يستند كليا على هذه المصادر للطاقة، فمهما ادعت الدول الصناعية الغربية والدول الأخرى التي تستخدم الفحم لتوليد الكهرباء كالصين وأستراليا والهند واليابان وإندونيسيا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وبولندا وغيرها الكثير، ومهما التزمت هذه الدول على الورق فإنها لن تتخلى في المستقبل المنظور عن حرق الفحم لتشغيل أنشطتها التنموية ولتوليد الكهرباء، وقد قالها ترامب بكل صراحة في عدة مناسبات بأنني سأُنهي الحرب التي بدأها أوباما على الفحم، ومدح الفحم قائلاً: «الفحم النظيف الجميل»، كما ألغى ترامب كل الخطط والسياسات والأنظمة التي وضعها أوباما لخفض الاعتماد على الفحم والتوجه نحو مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة. ولذلك في تقديري فإن قضية التغير المناخي ستظل عالقة وتدور حول نفسها سنوات طويلة أخرى وستبقى متخبطة في مسيرتها في هذا النفق المظلم الذي دخلت فيه منذ عام 1992. حتى ينضب الفحم والبترول والغاز الطبيعي، فتضطر عندئذٍ الدول رغمًا عن أنفها وليس حُبًا في البيئة إلى تبني مصادر أخرى للطاقة لا تنبعث عنها ملوثات ترفع درجة حرارة الأرض، أو مصادر أقل انطلاقًا للغازات التي تسبب التغير المناخي من الوقود الأحفوري، فمتى سيأتي هذا الزمان؟

مشاركة :