بعيداً عن أهداف متظاهري السترات الصفراء في فرنسا، التي سنناقشها لاحقاً، إلا أن الأساليب والطرق التي يستخدمونها تعبّر عن تطرف لا يرقى إلى شك، فهناك عنف في التعامل مع الشرطة وسرقات لمتاجر وإيقاف للسيارات وتشكيل حالة رعب للمدنيين عموماً. بدأت المظاهرات احتجاجا على رفع الحكومة لأسعار البنزين والمحروقات في أيار (مايو) 2018، غير أنها امتدت ثم عادت بقوة في شهر تشرين الاول (أكتوبر) الماضي، لتتحول إلى قوة كبيرة وتتوسع مطالباتها بإلغاء زيادة الضرائب وخفض غلاء المعيشة، حتى وصلت لحد المطالب باستقالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. من حيث المبدأ تعتبر المطالب منطقية، بل إنها لا تخرج عن حقوق أي شعب في الدول العلمانية التي تسمح بحرية الرأي والعدالة والمساواة، وهو ما تتشدق به شعارات فرنسا منذ ثورتها، على أن ما يثير الريبة هو ذلك التنظيم الذي رافق هذه الحركة والدعم الذي لقيته من الأحزاب، خاصة حزب الجبهة الوطنية اليميني الذي تترأسه ماري لوبان. هناك أحاديث عن أن لوبان تقف خلف هذه الحركة، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، هادفةً إلى تحقيق الحلم الكبير الذي بدأ منذ أن أنشأ والدها الحزب في 1972 وطوره، حتى انتزاعها الزعامة من والدها بعد معركة شرسة استخدمت فيها روح الشباب وبثت خطاباً أقل تطرفا وحدةً من والدها، لتجني أصواتا أكثر وتظهر في الصورة في مشهد الانتخابات الفرنسية لتصبح بعدها الأكثر قوة في المعارضة. لكي نتساءل عن الرابط بين لوبان والسترات الصفراء فهناك ما يجمعهما، ألا وهو الشعبوية والنفور من الأجانب ورفض المهاجرين والابتعاد عن الاتحاد الأوروبي وتعزيز من شأن كل ما هو فرنسي بشكل عنصري. توافق كل ما سبق مع امتداد الحركات الشعبوية في العالم، وبالذات نجاح دونالد ترامب في تولّي الرئاسة الأميركية، الأمر الذي جعله يتفق مع ماري لوبان في نفَسِها «الشوفيني»، بل إن هناك من يعتقد أنه داعم لها في موضوع السترات الصفراء لتحجيم مطالبات ماكرون الداعية إلى جيش أوروبي موحد مستقل عن الهيمنة الأميركية. عندما تساءلت في العنوان عن أفول «الليبيرالية»، إنما أعني هذا التزايد الملحوظ بنجاح أشخاص ينخرطون بلعبة الديموقراطية، بينما هم يتخذونها سلّم للوصول، لكن الهدف هو تكريس «الشعبوية» وهو لن يتأتى قبل الوصول إلى السلطة واستخدام أسلوب التسلل بحذر، كما انتهجها الرئيس أردوغان ولا زال في تركيا لتعزيز سلطاته وأفكاره. لن أصبح واعظا في بلد الديموقراطية، وهو كمن يبيع الماء في حارة السقايين، إنما أرى ألا يسمح بحدوث تناقض ما بين قيم الدستور وأهداف الأحزاب من جهة، ومن جهة أخرى أهمية أن يتم التشديد على آراء زعماء الأحزاب، فليس هناك رأي شخصي لزعيم سياسي، فتصريحات ماري لوبان على سبيل المثال متطرفة إلى درجة أنها هاجمت بعض لاعبي المنتخب الفرنسي من ذوي الأصول الأفريقية، متهمةً إياهم بأنهم لم يحترموا العلم، لكن استنكارها منْح الجنسية لهؤلاء وأهاليهم يوضّح كم هي تحتوي من عنصرية. والدها من قبل كان أسوأ، فعندما حصل المنتخب الفرنسي في 1998 على كأس العالم للمرة الأولى بقيادة زين الزين زيدان وعلى رغم الفرحة الغامرة التي وحّدت المجتمع الفرنسي بكل أطيافه فإن جون لوبان قال: «إن تنوع أعراق لاعبي المنتخب الفرنسي يجعل الإنجاز ليس فرنسياً». في تصوري أن الحركة ستهدأ، خاصة أن القبول بمطالبها يعني بداية لقبول الانقسام في المجتمع الفرنسي، فمن المؤكد أن المحتجين لا يحوون أي فرنسي من أصول أجنبية، بحسب تصريح لوبان نفسها والمتظاهرين، وفي الوقت نفسه سيضطر ماكرون لتقديم تنازلات، إنما سترافقه دراسة الحالة المتفاقمة برمتها كي لا تتكرر.
مشاركة :