تنتاب بعض الناس مشاعر الخيبة والإحباط خلال المناسبات العائلية المليئة بالبهجة كحفلات الزفاف أو أعياد الميلاد أو الرحلات المشتركة، ويفضلون الانزواء والهروب من أصوات الضحكات وتشارك الأخبار السارة والتهاني على الاندماج في أجواء المجموعة. لندن – يرى علماء النفس أن البعض يركزون أكثر على مشاعرهم الذاتية بدل تقدير الناس من حولهم وأن سعيهم المحموم للشعور بسعادة دائمة يزيد من إحساسهم بالوحدة والانفصام والانعزال أكثر عن الأهل والأصدقاء. تؤيد عالمة النفس ايرس مواس هذه الفكرة. وتقول “يضع الناس معايير عالية جدا لسعادتهم فيعتقدون أنهم يجب أن يكونوا سعداء طوال الوقت أو أن يكونوا في غاية السعادة وهذا قد يؤدي إلى الشعور بخيبة أمل إزاء أنفسهم لأنهم فشلوا في تحقيق مرادهم وبالتالي يتعرضون لآثار هزيمة الذات”. وأوضحت الباحثة مواس أن من يرفعون معايير السعادة ربما يكونون قد شعروا بالإحباط أثناء حدث كبير مثل زفاف أو “رحلة عمر” باهظة. فكلما رغبوا أكثر في الاستمتاع بكل لحظة يصبح الأمر أقل ابتهاجا بينما قد تكون تجربة رحلة غير متوقعة في مكان قريب تجربة أكثر إيجابية. وأضافت “هذا التركيز على الذات قد يجعلني أختلط مع الناس بشكل أقل وقد أحكم عليهم بسلبية أكثر إذا ما تصورت أنهم يتلاعبون بسعادتي”. ونشرت هيئة الإذاعة البريطانية ‘بي بي سي’ تقريرا تطرق إلى نتائج البحث الذي أجرته عالمة النفس. واختبرت مواس مع ثلاثة من زملائها فكرة السعي المضني للسعادة الدائمة وتأثيرها على النظرة للذات والعلاقات الاجتماعية من خلال سلسلة من الدراسات. فأجرت استطلاعا مفصلا سألت من خلاله المشاركين تقييم بعض المواقف مثل: •مقدار سعادتي في لحظة معينة يؤشر إلى حد كبير على كيف أن حياتي جديرة بالاهتمام. كي تكون لي حياة ذات مغزى، أحتاج للإحساس بالسعادة طوال الوقت. أقدر الأشياء في الحياة بقدر ما تؤثر على سعادتي الشخصية. وكما هو متوقع، توصل الفريق إلى أنه كلما أيد المشاركون بقوة هذه المشاعر كلما قل رضاهم عن حياتهم في الوقت الراهن. أما بالنسبة إلى الأشخاص الذين عاشوا أحداثا ضاغطة كالفقد مثلا لا يحدث الموقف من السعادة أي فرق ولهذا فإن الرغبة في السعادة لا تجعل الشخص بالضرورة يشعر بحال أسوأ، عندما تكون ظروفه صعبة، إلا أنها من الممكن أن تقضي على مشاعر القناعة التي تنمو بشكل طبيعي في الأوقات الجيدة. وكانت الخطوة التالية لمواس وزملائها هي أن يروا إذا كان بالإمكان التأثير على سلوك الناس ليغيروا شعورهم بالسعادة على المدى القصير. وللقيام بذلك، طلبوا من نصف المشاركين قراءة مقالة صحافية مفبركة تتناول موضوع أهمية السعادة بينما أُعطيت مقالة مشابهة للنصف الآخر عن فوائد “الحكم الجيد” دون أي إشارة إلى المشاعر. وطلب الفريق من المشاركين مشاهدة فيلم يدخل السرور على القلب عن الفوز الأولمبي ثم سألوهم عن مشاعرهم بعدها. ومرة أخرى لاحظوا تأثيرا يدعو للسخرية، فقد كان للفيلم تأثير أقل على مزاج الأشخاص الذين كانوا استعدوا لرغبة أكبر في السعادة مقارنة مع الأشخاص الذين قرأوا المقالة المحايدة. السعادة شيء ضبابي ومع تغيير الأهداف باستمرار يكون من الصعب جدا أن يشعر المرء بالوصول إلى قمة السعادة وعليه يبدو أن القراءة عن السعادة قد رفعت من توقعات المشاركين حول الطريقة التي يجب أن يشعروا بها عندما يشاهدون شيئا يدعو للتفاؤل والأمل ولذا كانوا على الدوام يسألون كيف يشعرون. وعندما لم تصل مشاعرهم الواقعية لهذه المعايير أنهوا مشاهدة الفيلم وهم يشعرون بالإحباط بدلا من السعادة. وتوصل سام ماغولي، من جامعة تورونتو وايكيونغ كيم من جامعة روتجيرز، إلى طريقة أخرى لإثبات أن السعي عن وعي وراء السعادة قد يؤدي إلى العكس من خلال جعلنا نشعر بأن الوقت يتسرب منا بسرعة. وخلال الدراسة، طلب من المشاركين إعداد قائمة بعشرة أشياء من شأنها أن تجعلهم سعداء في حياتهم (والتي قد تكون بسيطة مثل تخصيص ساعات قليلة كل أسبوع للعائلة)، لكن بدلا من أن يؤدي ذلك إلى مشاعر متفائلة إزاء المستقبل، سبب لهم ضغطا على وجه الخصوص بشأن الوقت المحدود لإنجاز كل تلك الأمور فكانوا أقل سعادة نتيجة لذلك. ولم يكن هذا ليحدث لو أنهم ببساطة أدرجوا الأشياء التي تجعلهم سعداء في تلك اللحظة. وكانت المشكلة تتمثل في رغبتهم بزيادة سعادتهم. ويقول ماغليو “المشكلة أن السعادة شيء ضبابي ومع تغيير الأهداف يكون من الصعب جدا أن تشعر بأنك وصلت إلى قمة السعادة وحتى إذا كنت قانعا فإنك تصبح راغبا في إطالة أمد هذه المشاعر. والنتيجة هي أنك دائما أمامك المزيد لتنجزه”. ويرى ماغليو أيضا أن “السعادة يمكن أن تُستمد من شيء مفرح يمكنني الاستمتاع به الآن إلى شيء مضن يتطلب مني العمل مرارا وتكرارا”. وأشار إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي تجعلنا على وجه الخصوص نهتم بحياة الآخرين التي يظهرونها لنا بشكل منمق وجميل مما قد يزيد من رغبتنا في حياة أكثر سعادة وإثارة. كما أعرب عن اعتقاده بأننا سنكون أكثر سعادة فيما لو تجنبنا النظر للآخرين لوضع معايير لما قد يرقى لحياة جيدة وذات مغزى. ويقول “إذا ما كنت تتذكر بشكل مستمر صديقك وهو يقضي إجازته في ذاك المكان الغريب أو في حفل عشاء راق، أعتقد أن هذا سيذكرك بأن أناسا آخرين أكثر سعادة منك ويجعلك تبدأ العمل مجددا على هدف السعادة”. جدير بالذكر أن أبحاثا كثيرة توصلت إلى أن الناس الذين لديهم سلوك أكثر تقبلا للمشاعر السلبية بدلا من محاولة التصدي لها باستمرار يصبحون في الواقع أكثر رضا بحياتهم على المدى البعيد. وتشرح مواس “عندما تسعى وراء السعادة قد تصبح أكثر إطلاقا للأحكام وأقل تقبلا للأشياء السلبية في حياتك. تقريبا توبخ نفسك على المشاعر التي لا تتماشى مع السعادة”. ولهذه الأسباب تنصح عالمة النفس بتبني أسلوب أكثر اتزانا لمواجهة تقلبات الحياة، بحيث يمكنك تقبل المشاعر السيئة والأحداث العابرة بدلا من محاولة القضاء عليها بالكامل. وعلى صعيد آخر، بيّن علماء أن الحياة تزخر بلحظات ملهمة ومبهجة إلى جانب الأوقات العصيبة ومن الصحي التعامل مع كلا الظرفين بحكمة والبناء على نتائج التجارب الحياتية ما يفيد في مراحلها اللاحقة. وتختلف مصادر السعادة من شخص لآخر، فهناك من تسعده الزيادة في الراتب أو الرحلات الفاخرة والمقتنيات الفخمة وهناك من يسره وجود شريك أو أن يكون محاطا بعائلته وأصدقائه أغلب الأوقات. وقد خلصت دراسة عالمية إلى أن وجود شريك حياة لأي شخص له تأثير كبير على سعادته يفوق الحصول على زيادة مالية على الراتب. وذكرت أن الصحة العقلية للإنسان ووضعه العاطفي لهما تأثير كبير على شعوره بالرضى أكثر من العوامل الاقتصادية، تبعا لتحليل أجرته كلية لندن للاقتصاد. وشملت الدراسة العديد من الإحصائيات التي أجريت على مستوى العالم، وشارك فيها 200 ألف شخص لمعرفة العوامل التي تؤثر على سعادتهم.
مشاركة :