تحقيق: سومية سعد «الغريفة» قرية حولتها المغالاة في الحكايات التي تناقلتها الأجيال عنها إلى شبه أسطورة في الغموض الذي يحيطها، فباتت مقصداً للسياح والباحثين عن الإثارة في رمال صحراء الإمارات، وبين هذه القصة وتلك قررنا زيارتها، لنتحرى حقيقة ما يتردد عنها، من أحاديث ربما في جانب منها مخيفة، فهذا يقول إنها القرية المهجورة من البشر، لهذا السبب أو ذاك، ومنهم من يقول إنه رأى فيها ما أيقظ خوفه، وأقض مضجعه، وغيرها من الأقاويل، والشائعات التي قررنا وضع حد لها بتحري المصداقية بأنفسنا.على بُعد نحو كيلومترين جنوب غرب منطقة المدام، على طول الطريق الواصل بين دبي وحتا؛ انطلقنا ليلاً للقرية المثيرة للجدل القابعة في منطقة المدام، على بعد نحو 60 كيلومتراً عن مدينة دبي، ونحو 50 كم عن مدينة الشارقة، ولتأخر الوقت بدت لنا القرية في بدائية تبدو ظاهرة في مختلف جوانبها، وقد طمست الرمال معظم معالمها، كأنما لم يسكنها بشر مطلقاً، رغم بعدها مسافة صغيرة فقط عن المباني والأبراج الشاهقة، واستمعنا لمن وجدناهم من أهلها الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.تقول «أم محمد» مواطنة من سكان شعبية الغريفة: قضيت سنوات عمري الأولى في القرية، واعتبرتها مصدر الأمان في كل ما واجهته في بداية زواجي، إذ إنه حسب الأعراف والتقاليد نتزوج في بيت العائلة، وأتذكر طفولتي في القرية مع إحدى صديقاتي التي كنا نختبئ في منزلها لأنه أكبر، وكنا نستغل الوقت في الضحك، وتبادل الأحاديث، وهذا حال كل شخص هنا.وتضيف، أنها تسكن على مقربة من القرية، وأن الأمهات يحكين لأطفالهن عن الجنية «أم دويس» التي تنتمي إلى قصص الرعب، وأنها تختبئ في القرية المدفونة، وهي أسطورة مرعبة ومخيفة، تحكي عن امرأة جميلة تضع العطور الجذابة، وتسير في الطرقات في الأوقات والأماكن التي تتمكن فيها من استدراج ضحاياها من الرجال بعطورها، ومن ثم تقتلهم ببشاعة. و«أم دويس» لديها قدمان كقدمي الحمار، ويداها عبارة عن زوج من الدويس (المناجل)، وعيناها كعيني قطة.الرمال المتحركةوقال سلطان محمد معضد بن هويدن، رئيس المجلس البلدي، إن تسمية شعبية الغريفة جاءت نسبة الى اسم منطقة المدام قديماً، وكان يطلق عليها سيح الغريف، واشتق اسم شعبية الغريفة من اسم المدام، وقديماً أول من سكن فيها عائلة الكتبي وظلت فيها من 1980 وحتى 1994 إلا أنها تعرضت لتيارات هوائية بشكل لافت تحركت بسببها الرمال عام 1995 الى المنازل ما جعل أهلها يتركونها. ويتذكر وهو صغير أصدقاءه، حيث كانوا يقومون باللعب وتحدي بعضهم بعضاً، ومن يكون الأقوى هو الذي يدخل الشعبية أولاً.منطقة جديدةوذكر سالم المعضد بن هويدن، أن معظم السكان الأصليين انتقلوا إلى منطقة جديدة، جهزت بكل وسائل الخدمات والترفيه، بعد أن تركها أهلها لتحرك الرمال داخل البيوت، تاركين وراءهم ذكريات جميلة يحنون إليها بين فترة وأخرى، والمنطقة الجديدة في موقع قريب أقل تأثراً بقوة الرياح عن القرية المدفونة التي كانت تدخل الرمال الفضّة إلى المنازل، وبعد ترك السكان للمنازل امتلأت بالرمال، وكل منزل على حسب موقعه، فمنها ما وصلت فيه الرمال الى السقف ومنها إلى المنتصف، والمسجد هو الوحيد الذي لم تدخله الرمال، وظل على حاله حتى الآن.وكانت البيوت تتألّف من صفين من المنازل المتطابقة المُشيّدة بصورة جيدة، ومسجد في نهاية الطريق، ويُعتقد أنّه جرى بناء هذه المنازل أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات كجزء من مشروع سكني في تلك الفترة.جذب للسياحويقول يوسف محمد: أصبحت القرية مؤخراً مصدراً لجذب السياح، وتلفت نظر العديد من الأشخاص، خاصة من محبي السفاري، ومخرجي أفلام الطبيعية الذين اعتادوا الذهاب إلى المنطقة في الإجازات، نظراً لما تحويه من أجواء رائعة، ومساحات صحراوية شاسعة يستطيع أي زائر أو سائح الاستمتاع فيها بقيادة دراجته النارية، أو سيارته ذات الدفع الرباعي. وتعمل العائلات على نصب الخيم والشواء وأعمال الطبخ، فأجواء المنطقة تجعل الزائر يشعر بالنشاط والحيوية، كما أن المنطقة تبعث على السكينة.وقت العصرويرى محمد أحمد شاب من أبناء القرية أن سحر الصحراء الممتد عبر الأفق وتحت رحمة هذه الظّلمة في شعبية الغريقة التي ولد فيها وكبر بعيداً عنها، متعته في الجلوس فيها وقت العصر، وأنه سمع من أجداده أن حكاية شعبية الغريقة هي صراع شرس نشب داخلها بين الطبيعية والبشر، وانتصرت في آخر المطاف الطبيعية، التي غمرت القرية وجعلتها خالية، فيها منازل متهالكة، وأزقة مقفرة، ويتذكر طفولته في القرية، وخروجه على ظهر أبيه حتى بداية طريق المدام، وكيف أن لا أحد كان يستطيع المشي على الرمال.غزال الرمالويضيف حسن الكتبي: يعتبر غزال الرمال من أكثر الحيوانات البرية التي كانت متواجدة في الشعبية، لأنه كان يمتلك قدرة كبيرة على الانتقال لمسافات طويلة من دون الاعتماد على مصادر المياه المباشرة، ومعظم النشاط يحدث في الصباح الباكر، وفي وقت متأخر من المساء مع مجموعات كبيرة، بينما يستريح في الظل خلال منتصف النهار، وأثناء الارتفاع الكبير في درجات الحرارة، وهذا يدل على أن هذا النوع من الغزلان اجتماعي بطبعه، ويعتمد على بعضه بعضاً في كل الوظائف اليومية، وأن لون غزال الرمال المتناسق مع بيئته الرملية يجعل رؤيته، وتتبعه صعباً، خاصة من مسافات بعيدة، ويتفرد هذا النوع من بين الظباء العربية بقدرته الصارمة على مقاومة الجفاف، والحرارة، والبرودة، فيعوض حاجته الماسة للشرب بمضغ النباتات الصحراوية المتشربة بالندى، والنباتات التي تحتفظ بالرطوبة.براثن الصحراء الزاحفةويقول مسلم خان باكستاني الذي كان يعيش على مقربة من القرية، إن جدران المنازل متينة، والطلاء المستخدم لا يزال على حاله تقريباً، رغم مرور أكثر من عقد من الزمن، إلّا أنّ هذه المنازل لم تَسلَم من براثن الصحراء الزاحفة، فالغرف فيها ممتلئة بالرمال إلى منتصف المسافة بين الأرضية والسقف، ولم يعد يسكنها غير الرمل، وبعض الأشخاص الذين يأتون لحنينهم إليها. ويقول شهر زمان باكستاني، وهو يسكن بالقرب من شعبية الغريفة: الرمال هنا لا ترحّب بالسكان، ولا يستطيع احد العيش، كأنما هناك شيئاً ما موجود في قلب هذه الرمال التي تغزو المنازل، ولا أحد يعلم إن كان ثمّة قوّة غيبية تحملها، أو أنها مجرد ظاهرة طبيعية، وما أكثر الروايات عنها، وترك أهلها جعل البعض يظلم القرية في رؤى من العالم الآخر.ويضيف أن سكان الشعبية كانوا يقومون بزرع الأشجار مثل السمر، والغاف، والنخيل وهذه الأشجار تعمل في بعض الأحيان كمصد للرياح.الذكريات الجميلةويتذكر محمد بن هويدن، الذّكريات الجميلة، ذكريات المدرسة، خاصّةً في الأعوام الأولى من حياة الإنسان، حيث كانوا ينتقلون مع أصدقائه إلى المدام، فهذه المرحلة فيها العديد من المواقف التي لا يُمكن نسيانها، ورفقة جميلة بريئة، لم تتلوّث بالأحقاد وأمراض القلوب المختلفة، وكانوا يتحملون المشقة من أجل تحصيل العلم، وكم من الصعاب التي عاشاها الأجداد.سحر الصحراءوترى الباحثة مانيش بوتيل، أن القرية المدفونة تجسد الطبيعية وسحر الصحراء، بتقلباتها، ومسارها، وجمالها، والعقبات التي تعيق طريقها، وصولاً إلى مصبها الرئيسي، وكباحثة في تقلبات الظواهر الطبيعية، فإن الرمال رغم قسوتها تتنوع بتنوع البيئة، كما تؤثر في الكثير من الأحيان في ثقافة الشعوب، وحضارتها.ويري المخرج روان جو، حينما كان يقوم بتصوير فيلم قصير عن الصحراء، أن منطقة الغريفة وما حولها تعتبر جاذبة للمنتجين الباحثين عن مواقع لتصوير مسلسلات وأفلام، ومقصداً سياحياً، ومعلماً بارزاً يقصده الباحثون عن الإثارة، والحكايات والأساطير كثيرة ومتنوعة حول السبب الحقيقي للهجرة الجماعية لأهل القرية. وأضاف المصور راجي كومار أن لون الرمال الصفراء الإماراتية يستقطب المصورين من هواة ومحترفين، لما تتمتع به المنطقة من أجزاء كبيرة من معالم المساكن تسبَّبت بطمر كثبان رملية جميلة وهذه الصور معبرة يبحث عنها المصورون المحترفون. مزار ومقصدويقول علي بن سالم الكعبي، إن القرية أصبحت مزاراً ومقصداً تراثياً للأجيال القادمة لتكون قادرة على التواصل مع أسلافها، و تمكينها من توسيع إرثها الحضاري، ولهذا الغرض يجب أن تنظم عملية حفظ وتسجيل للتعرف إلى أهمية وقيمة هذه المباني التراثية، ووضع سياسة لعملية التوثيق للحفاظ على هذه الهياكل للمستقبل.منطقة جاذبةويقول سالم عبيد الميالة مدير بلدية المدام: ترجع تسمية القرية المدفونة بسبب طمر الرمال داخلها، ويبلغ عدد البيوت فيها 13 منزلاً، إضافة إلى المسجد، وقد وجه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، بنقل أهالي الشعبيات إلى مناطق أحدث، وأكثر استقراراً، ووقتها طالب أهلها بأماكن بعيدة عن تيارات الرمال، وانتقل عدد من شعبية الغريفة إلى منطقة جديدة، وظلت العشبية وحيدة.120 شخصاًوقال راشد خلفان الكتبي من أهالي الشعبية: كنا نجتمع جميعا سكان شعبية الغريفة في المناسبات على قلب رجل واحد، وكان العدد نحو 120 شخصاً، ما بين رجل وامرأة وأولاد، وكنا نقوم بتربية الجمال، والماعز، والأغنام، وأتذكر كنا نجتمع جميعاً في العيد ونقوم بذبح 5 رؤوس من الأغنام، والنساء يقمن بعمل الطعام، ونتجمع جميعاً، الرجال يأكلون معنا، والنساء والأطفال في مائدة أخرى، وكان الجميع يجتمعون، وكلهم أناس طيبون على فطرتهم كعادة أبناء الإمارات، ويستقبلون الضيف بالحب والترحاب.. منطقة تتجدد فيها الحياة ويعيش الناس مع بعضهم بعضاً بكل الوفاء والصدق، وعندما كبر أولادنا ودخلوا المدارس كان لابد أن ننتقل إلى مكان اكثر قرباً من المدارس.الذكريات الجميلةواسترجعت شيخة علي راشد الكتبي، الذكريات الجميلة في الشعبية التي عاشت فيها فترة شبابها، وحكاية السهر، حيث انتقلت للعيش في شعبية الغريفة بعد زواجها عام 1984، وكيف كانت النساء يجتمعن تحت شجرة السمرة مع جدتهن العجوز لكي تحكي لهن الحكايات، وتعلم النساء كيفية عمل الأكلات وكل فنون الحياة. وحكت عن ذكرياتها الجميلة مع صديقتها ورفيقة دربها مريم بن سليم، هي وجميع النساء اللاتي سكنّ في شعبية الغريفة، ومشاركة الجميع في الأفراح والإحزان، وتتذكر وفاة عدد من أهالي القرية منهم عبيد بن مبارك العامري، وسالم بن عبيد العامري، وسيف سالم، وعبيد سالم العامري، وخلفان بن راشد.
مشاركة :