دمشق – يشهد الشمال السوري معارك محتدمة بين الجماعات المسلحة الموالية لتركيا، منذ أيام، أدت إلى سقوط العشرات من القتلى في صفوف المقاتلين والمدنيين، الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بنيران صديقة. ويطرح اندلاع هذه المعارك في هذا التوقيت بالذات تساؤلات كثيرة، حول ما إذا كانت قوى خارجية تحركها، في ظل اتهامات متبادلة بين تلك الجماعات، حول المسؤول عن اندلاعها. وتتركز المعارك بين “هيئة تحرير الشام” التي تقودها جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) وبين “الجبهة الوطنية للتحرير” في كل من ريفي حماة الشمالي وحلب الغربي وأجزاء من محافظة إدلب، وهي مناطق محسوبة على اتفاق “خفض التصعيد” الذي توصلت إليه كل من أنقرة وموسكو في 19 سبتمبر الماضي. ودخلت الجمعة قوات “درع الفرات” -وهي مجموعة من الفصائل السورية جمّعتها تركيا في العام 2015 لمقارعة وحدات حماية الشعب الكردي- في المعارك ضد “هيئة تحرير الشام” التي بدت كفة القتال تميل إلى صالحها بعد سيطرتها على مدن وبلدات في أرياف حلب وحماة وإدلب أبرزها مدينة دارة عزة. وقال قائد عسكري من الجيش السوري الحر الجمعة إن “اشتباكات عنيفة اندلعت بين مقاتلي درع الفرات ومسلحي هيئة تحرير الشام قرب بلدة صلوة في ريف إدلب الشمالي، وأن عددا كبيرا من القتلى والجرحى من عناصر الهيئة سقطوا أثناء محاولتهم اقتحام البلدة”. وأكد القائد العسكري أن “مجموعات من فصائل درع الفرات توجهت إلى المنطقة لتعزيز نقاطها ووقف تقدم هيئة تحرير الشام”. واتهم “الهيئة بالسعي للقضاء على فصائل المعارضة وإنهاء وجودها في المناطق التي حررتها تلك الفصائل، لتتفرد هي بالسيطرة على المنطقة”. وأوضح “أصبح من الضروري فتح جميع الجبهات ضد الهيئة”. وتقول مصادر مطلعة إن معارك كر وفر تجري بين الجبهة الوطنية للتحرير وهيئة تحرير الشام وأنه من الصعب الجزم بمن ستكون لها الغلبة رغم أنه تنظيميا وعسكريا تبدو الكفة ترجح الهيئة، لافتة إلى أنه على خلاف المرات السابقة لا يبدو أن هناك رغبة لدى تركيا في التدخل والوساطة بين الجانبين لإنهاء الصراع. وكانت الجبهة الوطنية للتحرير التي شكلتها تركيا في مايو 2018 وتضم العديد من الفصائل السورية المعارضة في مقدمتها جماعة نورالدين الزنكي وأحرار الشام، قد اتهمت هيئة تحرير الشام بمحاولة إرباك تحضيرات الفصائل لاجتياح منبج وطرد الأكراد منها. واعتبرت الجبهة أن هيئة تحرير الشام تنفذ أجندة الأكراد والنظام، بالمقابل تتهم الأخيرة الجبهة بأنها المتسبب في اندلاع الاشتباكات بعد إقدام جماعة نورالدين الزنكي على قتل عدد من عناصرها في ريف إدلب. ويرى مراقبون أن أطرافا عديدة لها مصلحة في الصراع المحتدم حاليا بين الجماعات السورية، وفي مقدمتها النظام وحليفته إيران حيث أن دمشق لطالما أبدت تذمرها من عدم تنفيذ اتفاق سوتشي، الذي اضطرت إلى القبول به تحت الضغط الروسي. وترى دمشق أن الاقتتال الدائر حاليا بين الفصائل السورية، هو أفضل طريقة لإنهاك الفصائل المناوئة لها، خاصة إذا كانت النتيجة لصالح هيئة تحرير الشام المصنفة إرهابية، حيث سيكون هناك مبرر قوي لنسف اتفاق سوتشي واجتياح المنطقة التي تعتبر مع شرق الفرات (حيث يسيطر الأكراد) آخر المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة. من جهة ثانية يرى مراقبون أن الاقتتال الدائر بين الجانبين قد يكون بواعز من تركيا، التي تجد نفسها في موقف صعب أمام روسيا في ظل عجزها عن تنفيذ اتفاق سوتشي. ولا يستبعد المراقبون أن تكون أنقرة قد أوعزت إلى هيئة تحرير الشام -التي رغم أنها صنفتها إرهابية لا تزال تدعمها خلف الكواليس- بمهاجمة مناطق سيطرة الجبهة الوطنية للتحرير، لتحقيق هدفين أولهما هو حرف الأنظار عن منبج حيث أنه بعد وعيدها وتهديدها اليومي باجتياح المدينة تبين لها بالواضح أنها لا يمكنها الإقدام على هكذا خطوة في ظل تدخل النظام السوري على خطوط التماس، والأهم إصرار واشنطن على حماية الأكراد. وشدد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مساء الخميس، على أهمية “ضمان ألّا يقتل الأتراكُ الأكرادَ، وحماية الأقليّات الدينية في سوريا. كلّ هذه الأمور لا تزال جزءاً من المهمّة الأميركية”. وأثارت تصريحات بومبيو غضب تركيا التي قال المتحدث باسم خارجيتها حامي أقصوي الجمعة “إن قيام الوزير بومبيو بمساواة منظمة وحدات حماية الشعب الإرهابية مع الأكراد، حتى لو لم يكن ذلك متعمدا، ينم عن نقص مقلق في المعلومات”. والوحدات فصيل كردي متحالف مع واشنطن لكن أنقرة تعتبره “تنظيما إرهابيا” يهدد أمنها القومي. ويرى متابعون أن أنقرة من صالحها الاقتتال في الشمال للتغطية على عجزها عن اجتياح منبج أو شرق الفرات، كما أنه قد يكون هناك اتفاق بين موسكو وأنقرة على إدخال الأطراف المسيطرة في الشمال بمعارك تستنزفها، الأمر الذي سيجبر تلك الفصائل على القبول بتنازلات تصر عليها روسيا. وسبق أن أبدت موسكو تبرما من بطء تنفيذ اتفاق إدلب. وللفصائل السورية تجارب مريرة مع تركيا، فقد سبق أن عقدت اتفاقا مع موسكو اضطرت بموجبه الفصائل إلى التخلي عن حلب في 2016، كما كان لأنقرة دور حاسم في استعادة النظام للغوطة العام الماضي حينما ضغطت على الفصائل الموالية لها للانسحاب إلى إدلب.
مشاركة :