النفاق جزء من طبيعة السياسة في الغرب. والميكيافيلية هي مدرسته الأولى. لكن ليس النفاق وحده، وإنما الوقاحة فيه أيضا. ذلك أمر جلي عندما يتعلق بحقوق الإنسان. لا حاجة لذكر أي أمثلة. ما من إنسان يعيش في هذه المنطقة إلا ويعرف أن الحكومات الغربية تستخدم قضايا حقوق الإنسان ليس من أجل الدفاع عن هذه الحقوق بعينها، وإنما من أجل ابتزاز حكوماتنا فحسب. كان من الأولى، بطبيعة الحال، ألا نرتكب أي انتهاكات. ولكن من الأولى أيضا ألا نكفّ عن سرد سجلات الفظائع التي ظل يرتكبها هذا الغرب بشأن حقوقنا وحقوق غيرنا. سجلات الجرائم يتعين أن تُكشف. كما يتعين أن تبقى حاضرة في أعين الناس، باستمرار، وبكل الوسائل الممكنة، من أجل أن نجعل من نفاق الحديث عن حقوق الإنسان فضيحة لكل أولئك الذين يستخدمونه كوسيلة من وسائل الابتزاز. الوثائق والكتب والشهادات والأدلة المتعلقة بسجلات الجرائم التي ارتكبتها حكومات الغرب المختلفة، ضد الأفراد والشعوب أكثر من كثيرة. ولكن إعلامنا لا يجرؤ على تناولها، كما لا يجعل منها سلاحا مضادا. وإذا فعل، فلغاية انتهازية طارئة تقصد الدفاع عما نرتكبه، لا فضح ثقافة الجريمة التي تميز معظم أوجه السياسات الغربية حيال الشعوب الأخرى. ليس من المدهش، أبدا، أنه ما من مسؤول غربي واحد، (ولا واحد)، دفع ثمنا عن جرائم ارتكبت بحق شعب آخر أو أفراد منه. فالجريمة جزء من طبيعة السياسة عندما يتصل الأمر بالدفاع عن المصالح الخاصة. وهناك من الجرائم ما لا تستطيع الحكومات الغربية أن تنكره، إلا أنها لا تجرؤ على تحمّل المسؤولية عنه، كما لا تجرؤ حتى على تقديم الاعتذار لضحاياها. صوت جرائمهم يظل خافتا. وصوت انتهاكاتنا سرعان ما يتحول إلى صراخ وعويل وهستيريا إعلامية بلا حدود. يحسن تأكيد القول، لمن يرغب، إن من الأولى ألا نرتكب انتهاكات، وأن نُعلّم أجهزتنا الأمنية أن تمارس عملها بوسائل أكثر لياقة وتحضرا، وأن نجعل القوانين والقواعد قادرة على أن تجمع بين العدل والشدة فيه، وأن يكون العدل عدلا. أنظر في شريعة حمورابي. لقد بنت واحدة من أولى وأعظم الحضارات في التاريخ. ولكن أنظر فيها مرة أخرى، وسترى كم أنها كانت وحشية أيضا في شدّتها وصرامتها. الدرس الذي يمكن للمرء أن يستقيه منها، هو أن القانون قوة دافعة للتقدّم، إذا ما كان تعبيرا صارما عن العدل، بصرف النظر عن شدته. ليست الشدة هي المشكلة. ولكنها تُصبح مشكلة إذا افترقت عن سبل الإنصاف. هذه هي كل المسألة. وهذا كل ما نحتاجه، لكي نوقف الحاجة إلى ممارسة أي انتهاك. ولكن ألق نظرة أخرى إلى ما نرتكبه، وسرعان ما ستكتشف أن انتهاكاتنا لا تتسم بطابع بنيوي، لأنها ليست أصلا من أصول السياسة في ثقافتنا. إنها مجرد سلوك عاجز عن إدراك الوسائل الصحيحة لإدارة المصالح العامة. أما في الغرب، فالقصة مختلفة كليّا. الانتهاك هناك جزء أصيل من السياسة؛ جزء من ثقافتها. والتعدي على حقوق ومصالح الشعوب الأخرى، والسعي إلى استعمارها أو الهيمنة عليها، وعدم التورّع حتى عن إبادتها هو أساس وجودها. إنه بنيتها الأم. قلبها الذي لا ينبض إلا بالقتل والسحق والدمار الشامل. والنفاق جزء من طبيعتها. إنها تنافق، لأغراض استعلائية، للظهور بمظهر المتحضر (وهو بحد ذاته نفاق أيضا)، وتنافق لكي تمارس نوعا من التغطية على ما ظلت ترتكبه. كما أنها تنافق من أجل أن تبدو وكأنها تقف على الضفة الأخلاقية المرتفعة. نحن نمارس انتهاكاتنا بغباء مجرد. وهم يمارسون انتهاكاتهم بمعرفة ترتبط بفلسفة الحكم ووسائله. أما الوقاحة، فإنها تعبير عن ثقة بإمكانية الإفلات من المحاسبة، وتعبير عن تغلب الصورة “المتحضرة” عن النفس على واقعها الهمجي. لقد حدث أن اعتذرت فرنسا، مؤخرا، لأسرة ضحية فرنسي تم تعذيبه وإعدامه في الجزائر. ولكن فرنسا لم تجرؤ على الاعتذار عن مئات الآلاف من الجزائريين الذين عذبوا وأعدموا في الغرفة المجاورة! عين فرنسا، الرسمية على الأقل، تصبح عمياء تماما عندما يتعلق الأمر بجرائم ترتكب بحق شعب آخر. إنها فرنسا الأنوار والثقافة. ياه، ما أكذبها! وياه ما أقبحها من وقاحة. نحن نمارس انتهاكاتنا بغباء مجرد. وهم يمارسون انتهاكاتهم بمعرفة ترتبط بفلسفة الحكم ووسائله. أما الوقاحة، فإنها تعبير عن ثقة بإمكانية الإفلات من المحاسبة، وتعبير عن تغلب الصورة "المتحضرة" عن النفس على واقعها الهمجي وهل يحتاج أحد إلى أن يتعرّف على جرائم الولايات المتحدة ضد ملايين البشر على طول المسافة من فيتنام إلى أميركا اللاتينية؟ ثم لا تستغرب أبدا، أن تعلّمك بريطانيا أصول التعامل الأنيق، واللغة المخملية، هي ذاتها التي لم تترك انتهاكا إلا وارتكبته بحق ملايين الفلسطينيين والعراقيين والمصريين والهنود والأفارقة والباكستانيين وكل شعوب العالم. ليس في الماضي البعيد، الذي تتذكره بفخر، ولكن في القريب من الأيام أيضا. يقول كوميديان بريطاني ظريف إن “قطعة الوساخة هذه التي تسمى الجزر البريطانية، أنشأت إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس. ولكن هل تعرف لماذا؟.. لأن الله لا يثق بالإنكليز في الليل”!. وللوقاحة دافعها. ذلك أن سياسات النفاق قد تكون تعبيرا مباشرا عن مشاعر القوة، تلك التي تجيز قول الشيء وفعل عكسه (عندما تقتضي المصالح) إلا أنها تعبير عن استعلاء عنصري أيضا. نحن في نظرهم شعوب غير متحضرة. نحن أقل بشرا مما هم. أو أوطأ كعبا من كعوبهم العالية. هذا بدوره جزء أصيل من فكرة الغرب عن نفسه، وجزء أصيل من فلسفته العامة. صحيح أن هذا الغرب لم يغتسل بالصابون إلا مؤخرا. إلا أن نظرته عن نفسه تقول إنه أنيق ونظيف لمجرد أنه يستخدم اليوم أنواعا من الشامبو أكثر مما نعرف نحن. وهو عندما جاء لاستعمارنا، فقد كان يقصد (كما تقول وثائق عصبة الأمم) أن يدفع الأمم الأخرى إلى التحضر. ولكنه ذهب ليقتل ويستعبد وينهب، دونما حياء ولا وجل. ولو جعلت من الدماء نهرا، لفاض بأكثر مما يفعل نهر التايمز في عز المطر. ويظل على ضفته برلمان الماغنا كارتا قادرا على المصادقة على غزو العراق بناء على أكاذيب محضة، واعتبار نيلسون مانديلا إرهابيا، والفلسطينيين شعب غير موجود، القذافي هو من أسقط طائرة لوكربي، والجيش البريطاني لم يمارس انتهاكات بشعة، وتوني بلير لم يكذب أبدا، والمخابرات البريطانية لم تقتل ديفيد كيلي، والبي.بي.سي لم تعاقب أندرو غاليغان، لأنه تجرّأ على كشف الكذبة، بل لأنه لم يأخذ خبره من مصدرين! هكذا تكون وقاحة القوة قادرة على رسم صورة تناقض الواقع لتسخر منه. وهذا هو “أبو البرلمانات” الذي لا يعدم بعض نوابه وسيلة للرشوة أو بيع الضمير (إذا كان موجودا أصلا). إنه مسخرة. ومثله ما سمح للرئيس نيكولا ساركوزي أن يتلقى أموالا من القذافي قبل أن يذهب فيتحمس لقتله “دفاعا عن الديمقراطية”!. لماذا تعجز وسائل إعلامنا المختلفة عن كشف سجل الانتهاكات الغربية ونفاقه، وأن تفضح أسسه المنهجية ومصادره الفكرية؟ هل نفتقر إلى المعرفة؟ هل تسطّحت مؤسسات الإعلام عن الفكر والثقافة، حتى أصبحت ببّغاء تكرر ما تقوله رويترز وأمثالها؟ وإذا رفعوا الصراخ عما نرتكبه جهلا وسهوا، فلماذا نخرس عن انتهاكاتهم العالِمة، وجرائمهم المثقفة؟ أليست هذه مشكلة؟ إنها مشكلة عندما نمارس انتهاكا. وهي مشكلة عندما نقع ضحيته. وصورتنا تظل مشوّهة دائما، بينما صورتهم العاهرة تظل أيقونة مقدسة.
مشاركة :