بالنسبة للسائحين، فإن مدينة بيرايوس تعد ميناء العبارات الذي يعج بالحياة بالقرب من العاصمة اليونانية أثينا، والذي تبدأ منه رحلتهم إلى جزر بحر إيجه. ولكن هناك، وعلى بعد بضعة مئات قليلة من الأمتار، وفي الخفاء خلف تل صغير وحواجز، عالم مختلف تماماً، يتكون من أوناش وحاويات بامتداد البصر.مرحباً بكم في ميناء حاويات بيرايوس! هنا تضاعفت منذ عشر سنوات كميات البضائع التي تم تفريغها، وإعادة شحنها إلى وجهات أخرى. ومن المقرر أن يصبح هذا الميناء الكبير المتخصص في إعادة شحن البضائع وتوزيعها أكبر موانئ البحر المتوسط قريباً. أكثر ما يميز هذا الميناء هو أن شركة كوسكو الصينية للنقل هي التي تقوم على تشغيله، حيث حصلت الشركة عام 2008 على حق الانتفاع بهذا الميناء لمدة 40 عاماً، وذلك في إطار خطة خصخصة الميناء. وحصلت نفس الشركة عام 2016 على حصة أغلبية في شركة PPA اليونانية لتشغيل الموانئ. يمثل هذا الاستحواذ جزءاً من استراتيجية لبكين، وهي استراتيجية تستهدف أوروبا، حيث إن ميناء حاويات بيرايوس يعتبر محوراً لتدفق البضائع الصينية باتجاه أوروبا. إنه الأساس الذي تقوم عليه استراتيجية تجارية عالمية صينية، فتارة تقوم شركاتها بأنشطة باسم «طريق الحرير الجديد»، وتارة أخرى باسم «مبادرة بيلت اند رود»، أو «حزام واحد، طريق واحد». الهدف المعلن إقامة طرق مواصلات على اليابسة في البحر، لضخ بضائع صينية إلى أوروبا. نفوذ وبشكل ثانوي، تستطيع الصين من خلال ذلك تأمين نفوذها دائماً في أوروبا كقوة اقتصادية وتجارية متزايدة الحضور. وكان الرئيس الصيني القوي شي جين بينج، قد أعلن عن هذه الاستراتيجية عام 2013، وأعطاها أولوية قصوى. وقال فو شينجكيو، مدير الميناء، في تصريحات لصحافيين أجانب حظوا -مؤخراً- بدعوة لزيارة الميناء: «ميناؤنا هو بوابة الصين إلى أوروبا». يطلق الناس هنا على المدير الصيني الذي يمثل الأغلبية المالكة للميناء لقب «الكابتن». أولوية تعتبر الصين قضية إنشاء بنية تحتية في البلقان على رأس أولوياتها هناك، حيث يتم مد جسور في الصرب وكرواتيا، ومن المنتظر أن تختصر سكك حديدية جديدة وقت سفر القطارات بين بودابست وبلجراد من 8 ساعات في الوقت الحالي إلى 4 ساعات. وهناك استثمارات أيضاً في مصانع الحديد والصلب، ومفاعلات توليد الكهرباء والحرارة. وغالباً ما تجلب شركات الإعمار الصينية عمالها معها من الصين، ويمول مصرف إكزيم هذه المشاريع الصينية في البلقان. استثمرت الصين 1.2 مليار دولار في ميناء بيرايوس، وتبلغ قيمة صفقة خط السكك الحديدية، الذي يربط بين بودابست وبلجراد، 3.7 مليار يورو. وتنفذ هذه المشاريع بسلاسة وبدون عراقيل، خلافاً لمثيلاتها في أوروبا. شروط تتوصل الصين لشروط تنفيذ هذه المشاريع، من خلال التفاوض مباشرة من ناحية المبدأ مع الحكومات المعنية، أو حسب تعبير رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، مطلع عام 2018: «إذا لم يستطع الاتحاد الأوروبي توفير دعم مالي لنا، فإننا سنتوجه للصين». أنشأت الصين عام 2012 منتدى يحمل صيغة «16+1» تجلس فيه على الطاولة 16 دولة من جنوب ووسط وشرق أوروبا على مائدة التفاوض. من بين هذه الدول، دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، ودول لا تنتمي للاتحاد. ولكن المفاوضات الجوهرية تجري دائماً بشكل ثنائي بين قياديين في الحكومة الصينية، عادة ما يكون رئيس مجلس الدولة الصيني لي كي تشيانج، ورؤساء وزراء الدول الأوروبية. هناك أيضاً أوجه خافية في هذه الفكرة الصينية، حيث إن تحدث حكومة مع حكومة فقط يؤدي إلى عدم الشفافية، ويتجاهل رؤساء مجالس المدن والمجالس البلدية والمواطنين، حسب بعض المراقبين. إملاءات ويرى محمود بوزاتليا -الباحث الاقتصادي الصربي- أنه «بالنسبة لصربيا، فإن هذا النوع من التعاون لا ينطوي على مميزات بالنسبة للصرب، حيث إن الصينيين يملون شروطهم، ويجلبون معهم مواد البناء، ينفذون مشاريع البناء، بعمالهم غالباً، ويحصلون على القروض عبر بنكهم، مصرف إكزيم، وهي القروض التي يضطر دافع الضرائب الصربي لتسديدها، بفوائد ليست ذات مميزات خاصة للطرف الصربي». كثيراً ما تكون هناك، خلال المشاريع الصينية، شبهة في عدم اعتدادها بكثير من ضوابط الاتحاد الأوروبي ومعاييره. وأصبح ذلك أمراً إشكالياً بالنسبة للاتحاد الأوروبي، «حيث كانت الصين ناجحة جداً في تقديم نفسها كبلد لا يهدف سوى لتحقيق مصالح استثمارية»، حسبما رأى يوهانيس هان -مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون التوسيع- خلال قمة الإعلام الأوروبية في مدينة ليخ النمساوية، في ديسمبر الماضي، «ولكن العكس هو الصحيح»، حسب المفوض. وأضاف المفوض الأوروبي أن الصين تصدر نموذجاً استثمارياً تريد جعله مقبولاً في أوروبا أيضاً، موضحاً أن اقتصاد السوق الأوروبي يواجه تحدياً من مزيد من الاستبداد والرأس مالية المتسارعة. وفي الوقت ذاته، فإن هناك تراجعاً في قوة تأثير الاتحاد الأوروبي في المنطقة، حيث إن أوروبا التي تواجه مشاكل ذاتية، مثل قضية الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، تعطي انطباعاً بأنها مشغولة بنفسها فقط. وتعطي آمال دول البلقان في الانضمام للاتحاد الأوروبي -تلك الآمال التي تتباعد يوماً بعد يوم- انطباعاً لشعوب هذه المنطقة بأنها قد تعثرت ودخلت «غرفة انتظار الاتحاد الأوروبي».;
مشاركة :