تُرسخ الظاهرة البشريّة حضورها واستمرارها على “الأرض” عبر البنى المعماريّة والماديّة، الصلبة والثابتة، والقادرة على تحمل عوامل الزمن، لتبدو الجهود العلميّة التي يقوم بها الإنسان أشبه بسعي لمنع تزحزحه من مكانه، لكن أثناء هذه العمليّة التي هيمن فيها البشريّ على الأرض وغير من تكوينها الجغرافيّ، نفى الاحتمالات الأخرى لتجلي الظواهر الحيّة، وهدّد الكائنات التي لا ترى في سطح الأرض القاسي مساحة لنشاطها، بل تفضّل أن تبقى معلقة أو طافية، وتتعامل مع المساحات الصلبة بوصفها نقاط ارتكاز لها، لا أساس وجودها الحيّ. يستضيف قصر طوكيو في العاصمة الفرنسيّة باريس معرضا باسم “في الهواء”، مُستعيدا أعمال الفنان الأرجنتيني توماس سارسينو، الذي تعاون طوال مسيرته الفنيّة مع العشرات من الفنانين والناشطين البيئيين والعلماء لتقديم أعمال تسعى للتحرر من “ثبات” العالم، وتقديم احتمالات جديدة للنشاط الحيّ، لا تقوم على أساس الالتصاق بالأرض، بل الحركة ضمن الهواء والطفو على اليابسة، مُتجاوزا مركزيّة البشريّ عبر “أشكال” جديدة للحياة، تمتلك فيها مكونات العالم الأخرى حقا وقدرة على المشاركة في تكوين “الكوكب”، فكما الإنسان يستخدم علومه لالتقاط شكل العالم الماديّ وقياسه وضبطه وتكوينه، هناك طيور وعناكب وغبار وأمواج صوتيّة تتحرك وتمارس “نشاطها الثقافيّ” المحدود ضمن المساحات البشريّة التي تصنفها بوصفها أدنى أو هوامش لا دور جوهريا لها. ما إن ندخل الصالة الأولى في المعرض حتى يفاجئنا الظلام الدامس والصمت التام، بعدها نشاهد في المنتصف “شِباكَ التوتر” وهي مجموعة من أعمال التجهيز التي أنجزتها عناكب بالتعاون مع سارسينو وإيستر شيبر، اللذان قاما بتثبيت عدد من الأسلاك في الهواء، تاركين بعدها العناكب لتنجز شباكها وتكويناتها، التي تبدو هشّة في البداية، ثم ما نلبث أن نتلمس تماسكها إثر صمودها بوجه الهواء والحركة، ما يترُك المشاهد أمام تصميمات معماريّة تختلف كليّا عما نعرفه كبشر، ما يجعلها بنظر البعض درسا وأسلوبا يمكن لنا أن نتعلم منه كيف نُعلّق أنفسنا فوق الكوكب، والعيش مثلا ضمن فقاعات شفّافة تعمل على الطاقة الشمسية، مُحررين اليابسة من ثقلنا وما يتطلبه من بنى ماديّة نرتكز عليها. هذه الرغبة بالطفو تُحيلنا إلى الموجودات الأخرى من حولنا، كحبات الغبار الدقيقة، التي نرى في المعرض أيضا تجهيزا يسعى لالتقاط أصواتها، وهي تطفو في الهواء، ليقوم لاحقا جهازٌ بتحويل صوتها إلى شكل بصريّ، ذي حركة وإيقاع، أهملته حياتنا المعاصرة بسبب أنظمة النظافة والتلوث الصناعيّ، في تناس لأهميته كواحد من عناصر الكون الأولى، التي تمتزج مع ما تطرحه أجسادنا وما تُفرزه مكونات الطبيعة الأخرى. يحيلنا المعرض بعدها إلى احتمالات الحياة في الفضاء الخارجي والأوتار التي تضبط حركته والموسيقى التي تصدر عنه، باعتبار عالمنا مجموعة من الخيوط والتشبيكات التي نظهر ضمنها بشكلنا الحاليّ، إذ يقدم المعرض مثلا خارطة متحركة للعالم، بناء على حركة الأمواج الكونيّة، ولنكون أقرب من هذه الأمواج ندخل ضمن عمل تجهيز ضخم بعنوان “إيقاعات وخوارزميات”، يُشابه عناصر الكون والخيوط التي تجمعها، لنكون بينها كالغبار نتحرك ونطفو ونعزف الموسيقى عبر تلمس هذه الخيوط، ما يجعل شدة الإيقاع الذي ننتجه وتواتره انعكاسا لنشاطنا وألعابنا، والدليل الخفيّ على إيقاع حياتنا كبشر، يسعون بعلومهم إلى تعديل جوهر هذه “التكوينات”. يحاول المعرض أيضا التقاط العمارة الخفيّة والموجودات التي أنتجتها، ففي واحد من أعمال التجهيز باسم “تخطيطات هوائيةّ” نُشاهد بالونات مملوءة بهواء ملوث من مومباي، تتحرك حرة ويتوازن الواحد منها بخيط مثبت بأسفله قلم يَرسمُ حَركتها هذه على رقعة بيضاء، وكأننا نشاهد خارطة تختزن المكونات الخفيّة للمدنيّة، والتي يتداخل فيها التحلل الطبيعيّ مع الملوثات الصناعية، فالخطوط التي ترسُمها البالونات تَعكس أسلوب حركتنا ضمن المكونات الخفيّة للفضاء العام، والتي تتراكم وتزداد بسبب التصاقنا بالأرض وسعينا للحفاظ على ثباتنا، ما يجعل ثَقلنا كبشر يمنُعنا من اكتشاف احتمالات أكثر خفّة منا، احتمالات نهدد حضورها دوما بسبب تسميمنا المُستمر للكوكب. يحوي المعرض أيضا المنطاد العملاق الذي أشرف سارسينو على إنتاج عدة نسخ منه منذ عام 2007، والذي يشابه منحوتة طائرة، لكننا في قصر طوكيو ندخل ضمنه، بوصفه شاهدا على عصرنا الذي يحتل البلاستيك كافة جوانب الحياة فيه، فالمنطاد مصنوع من آلاف الأكياس البلاستيكية ذات العلامات التجاريّة المعروفة، وسبق له أن حلّق في عدد من العواصم الأوروبيّة، وحين نتأمل داخله نجد أنفسنا أمام عمل فنيّ قائم على تقنية الكولاج وتجميع وخياطة العلامات التجارية، أما خارج صالة العرض حين يطير فنحن أمام تكوينات تنتجها حركة الرياح التي تتلاعب بشكل المنطاد، وشدة أشعة الشمس التي يختلف إثرها لمعان البلاستيك، إلى جانب الظلال التي يرسمها على الأرض التي تشابه منحوتات متحركة أخفّ من الهواء حسب تعبير القائمين على المنطاد.
مشاركة :