لقد دأب الإنسان على اعتبار التنازع من أهم عناصر البقاء له واستمرار حياته وبه يحقق أهدافه ويصل إلى غاياته وعند غياب التنازع من حركة تفاعله في وسطه الشخصي والاجتماعي فإنه يشعر بالخمول والضعف وضياع الحقوق وأن فلسفة السيطرة تعتمد على مادة التنازع بين الأطراف وتحقيق الغلبة والنصر على الآخر وتتعدد أشكال وطرق النزاعات بين المجموعات البشرية بدءا من تحطيم الآخر وإيذائه بكل الأدوات والوسائل التي تُؤذي البدن وتُؤلمه أو تُحطم معنوياته وتُدمر نفسيته أو تسلب ممتلكاته والاحتيال عليه بالغش أو السرقة أو بأرقى أنواعها من الدعايات الإعلانية المضللة أو بالوعود البراقة في الحملات الانتخابية أو بالغرام والكلام المعسول في الوصول إلى قلب المحبوب والاستحواذ عليه أو بتبني الشعارات الاجتماعية أو الدينية أو الاقتصادية أو السياسية للوصول إلى سُلم إدارتها. والتنازع هو شكل من أشكال الخلاف ينشأ بين طرفين أحدهما يُؤمن بفكرة أو رأي أو طريقة أو سلوك والآخر يرفضها ومضاد لها وقد يكون لديه منهج آخر يقوم عليه ويرى أحقيته من وجهة نظره وأن كلاهما أو أحدهما يفرض على الآخر أن ينقاد ويُذعن ويُسلم له وفي حال عدم الانقياد والتسليم فإن التنازع هو الساحة والميدان لحسم الصراع ووصول المنتصر إلى منصة التتويج والسيطرة والانتقام. ومع تطور المجتمعات البشرية وتقدمها من الناحية الدينية والعلمية والثقافية والتكنولوجية إلا أن أشكال التنازع والسيطرة بين الأفراد والشعوب تتطور وتتقدم بأساليب تُناسب المرحلة والقوانين والتشريعات والأدوات التي تُستخدم في معارك التنازع من أجل السيطرة على الآخر وظُهور عناوين براقة ووسائل منمقة وطرق مبتكرة من أجل بقاء التنازع مستمرا وحيويا. ولك أن تتخيل كيف استطاع الإعلام المرئي والمسموع والمقروء أن يُذكي التنازع الديني والسياسي والاقتصادي والعلمي والرياضي والفني بين الأفراد والمجتمعات والدول وأن يكون الراعي الرسمي للنزاعات وأن تكون المنابر الإعلامية أهم أدوات التنازع في العصر الحديث بشكل مباشر أو غير مباشر وأن تُفرق بين أبناء الوطن الواحد والطائفة والأمة وأصبح المتنازعون أكبر همهم هو إيذاء مخالفيهم أو النيل منهم أو هدم أفكارهم أو استبعادهم من ساحة العمل والتفاعل بكافة أنواعه وأشكاله. ولا يكاد يخلو عمل أو سلوك أو نشاط أو علاقة أو عبادة من غير تنازع فالتنازع شوائب ضارة في غريزة الإنسان وفطرته وتحتاج إلى سيطرة العقل والمنطق والحكمة عليها ولجم وكبح جماحها ولا يمكن ذلك إلا من خلال الوعي والفهم والإدراك أن كل انفعال زائد وطائش أو تعصب أو فرض رأي يُؤدي إلى التنازع ويجعل من الإنسان يستخدم كل الوسائل والأدوات التي تُمكنه من القضاء على الآخر والفتك به ومن خلال النظر في أنواع التفاعل والسلوك البشري فإننا نجد أن التنازع يجتاح كل المجالات والأنشطة الإنسانية وأن كل الفاعلين فيها يبحثون عن اقصاء الآخر وبقاء الساحة لهم منفردة . فالزوج يرى أحقيته في ميدان الحياة الأسرية وتشكيل هويتها كما يشاء على زوجته وأبنائه والمعلم يفرض أسلوبه ومعلومته على الطلبة في الفصول الدراسية ليكون هو المرجع بلا نقاش والمشجع الرياضي يبتهج بالنتيجة ويسخر من الفريق الآخر لأنه خسر المباراة والخطيب الديني يتبنى الحديث والقول الذي يُؤيد رأيه ومنهجه ويُبطل دليل الطرف الآخر ويسقطه والأديب والشاعر والفنان يُشكك وينتقد زميله من أجل أن يتفوق عليه في الوسط الفني والفاشلون والكسالى يتهمون المتفوقين والمجتهدين والعاملين في خدمة المجتمع بالسعي وراء مصالحهم الخاصة والمسؤول والمدير يُقرب المصفقين له ويستبعد كل ناصح أمين والتَجار يُعلي من سلعته على حساب عيوب المنتجات الأخرى. أخيرا .. لازلتُ أُدرك أن الوقود الذي يُحرك التنازع ويُشعل نار فتيله في النفوس هو السيطرة والحقد والكراهية ضد الآخر ولا حل لهذا المرض الخبيث إلا التنافس الشريف الذي يجعلك تُؤمن أن الآخر له الحق كما هو لك وله الفرصة كما هي لك أيضا وأن بشاعة سلوك التنازع لا يُزيلها إلا جمال قيم التنافس الذي يجعل من كل طرف يُحب للآخر ما يُحب لنفسه ويُبارك له الفوز الذي كان يتمناه.
مشاركة :